العدد 192 - الأحد 16 مارس 2003م الموافق 12 محرم 1424هـ

جلّ خطابنا العربي يتحدّث عن صحوة دينية ولا يتحدّث عن صحوة عقلية

محمد جابر الأنصاري في حوار مع «الوسط» (1-2):

أجرى الحوار : حسام أبواصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

في مكتب يقع في الطابق الخامس من مبنى جامعة الخليج العربي تشير لافتة مكتوب عليها مكتب عميد الدراسات العليا، إلى مكان غاية في الهدوء... يجلس الباحث والمفكر محمد جابر الأنصاري خلف مكتب، وقد بدت من ورائه مجموعة من نسخ صراع الأضداد - أحد أهم مؤلفات الأنصاري - اقتحمنا هذه الخلوة الجميلة، وسألناه عن فائدة هذا الهدوء، فقال هذا مكتبي منذ 18 عاما وهذه مزيته... كما سألناه عن الحسم المؤجل، والتوفيقية المائعة، طرحنا مشكل الديمقراطية، كما طال الحوار مسائل أخرى مثل خطورة صوغ العالم على هوى أميركا، وعن الدعوات المختلفة لأسلمة العلوم والفنون، كما طال الحوار قضايا من قبيل القطيعة، والتفنن في جلد الذات، والهوية الضائعة، وإمكانات الخروج، وخطورة الاكتفاء ببناء الأسئلة ومراكمتها... وغير ذلك وكانت حصيلتنا من هذا الحوار الآتي:

من يتخذ قرار الحسم، ومن باستطاعته فض كل الاشتباكات التي نعاني منها على مستوى الواقع الذي نعيشه، أو حتى على مستوى الممارسات الفكرية؟

- إن كل ما ينادي به المفكرون والكتاب، لا يمكن أن يتحول إلى واقع إلا إذا تبنته قوى، فالتاريخ لا تغيره إلا القوى المؤثرة في السياق الاجتماعي. التنويريون الفرنسيون - كما نعرف - لم يغيروا التاريخ بأفكارهم، وإنما في ظل وجود قوى اجتماعية متمثلة في الطبقة الوسطى الفرنسية التي آمنت بهذه الأفكار، ومن ثم تحركت لنقلها إلى حيز الواقع.

وهناك مقولة مشهورة لابن خلدون في مقدمته أكد فيها بحسه الاجتماعي أن هناك فقهاء وعامة يلقون بأنفسهم في التهلكة لمجرد حماستهم الفكرية أو حماسهم الاعتقادي أو العقيدي أو العاطفي. ولكن التاريخ لا يتغير إلا بالعصبيات المؤثرة، وكان يقصد القوى الاجتماعية.

على صعيد آخر، نجد اليوم عند كل مسئول عربي على مختلف المستويات عشرات أو مئات الملفات من توصيات المفكرين والخبراء بشأن تطوير مجال عمله باعتباره مسئولا أو صاحب قرار. فالقضية ليست في قلة التوصيات أو الرؤى، ولهذا السبب أعتذر عن حضور معظم الدعوات التي توجه إليّ للمؤتمرات والندوات... لأن مثل هذه الاجتماعات تعقد باستمرار في مختلف الشئون العربية، وتنتهي إلى «التوصيات »، وبحسب علمنا فإن هناك الكثير من الخبراء والمفكرين والمثقفين قدموا توصيات محددة بحسب المطلوب، في التربية العربية، وفي الإعلام، وفي التقنية، وفي السياسة وفي التطوير الاقتصادي، لكن المسئول العربي هو المفترض أن يقوم بتحويل هذه التوصيات إلى الواقع .. وهنا مكمن النقص.

والملاحظة الثالثة على هذا السؤال، وهي ملاحظة يختص بها المجتمع العربي ككل، سواء على مستوى الجمعيات أو حتى الأفراد، وهي أننا نقول كلاما طيبا ممتازا ومنطقيا، ولكن حينما ننقل هذا الكلام إلى حيز التطبيق فالمحصلة ضئيلة لا تذكر و «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» (الصف:3). دائما توجد فجوة كبيرة في الحياة العربية بين الأقوال والأفعال، وتنطبق علينا جميعا: المسئولين والمفكرين والمواطنين والواعظين ورجال الدين...

والجماهير العربية منذ قرون وهي تستمع الى المواعظ الدينية وتتحمس لها، وعندما تخرج من المسجد للحياة العامة، يكون الوضع مختلفا. ومنذ عقود من الزمن نستمع - أيضا - إلى مواعظ تحديثية، والموعظة في النهاية هي كلام، سواء كانت دينية أو علمانية أو تقدمية أو تحديثية، ولكن الواقع لا يتغير. إذا أين الخلل؟

توجد فجوة كبيرة بين الكلام والواقع على هذه المستويات، وعلينا أن نسد هذه الفجوة. وأنا لا أعرف الطريقة الكفيلة بسد هذه الفجوة، ولكن إذا لم نسد هذه الفجوة سنظل كما قال عبدالله القصيمي «العرب ظاهرة صوتية، فكيف سنتحول إلى ظاهرة فعلية»؟

عطفا على السؤال السابق قلت في أحد حواراتك المتلفزة إن المثقفين حين يجتمعون فإن حديثهم أو نقاشاتهم تتجه صوب المستقبل... في حين أننا نتميز بخاصية الحديث عن الماضي دائما وأبدا، فهل تعتقد أن مفهوم القطيعة، كما تأصل في الثقافة الغربية كفيل بإزاحة العبء التاريخي... وهل القطيعة التي تدعو إليها تنجو من صيغ التوفيقية؟

- بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال عن مسألة الارتكاز على الماضي، فهذه ظاهرة بحاجة إلى تشخيص، ومعالجة... فإن أي اجتماع يعقد سواء كان في جلسة خاصة أو عامة، سرعان ما ينتقل الحديث إلى قضايا الماضي، لأنها قضايانا لم تحسم، وكما لاحظنا في إحدى المحطات التلفزيونية أخيرا، إذ كانت الحوارات تدور عن مسائل يعود تاريخها إلى صدر الإسلام، وكأنها تعيد إنتاج الفتنة الكبرى، ومازال الخطاب نفسه يعاد إنتاجه. ومن دون شك فنحن العرب نعاني عبء التاريخ، وقد أشار قسطنطين زريق منذ مدة إلى: «التاريخ العبء، والتاريخ الحافز» والثاني هو المطلوب للاستنهاض، ولكننا لانزال على المستويات الاجتماعية والواقعية نعاني من هذا العبء التاريخي المتجسد في وعبء القبيلة، وعبء الطائفة، وعبء المذهب، وعبء التخلف، وعبء النظرة إلى المرأة، وعبء التخلف السياسي في العالم العربي، ناهيك عن التخلف العلمي والتربوي والحضاري. ونحن لم نزل نؤجل الكثير من الفواتير التاريخية التي لم ندفعها بعد. وهناك الكثير من الأمم الشرقية التي حسمت قضية التاريخ مثل اليابان والصين والهند، وكل بطريقته الخاصة، ومن ثم أنجزت عملية التحول التاريخي ثم دخلت في مسار التطور والتحديث والتنمية. ونحن إلى يومنا هذا لم نحسم موضوع التطور التاريخي، ولم نسدد فواتير التاريخ في قضايا أساسية مثل الإصلاح الديني، والإصلاح السياسي، والإصلاح العقلي... أو الصحوة العقلية. كما أننا نتحدث دائما عن صحوة دينية من دون التطرق إلى الصحوة العقلية... على رغم أن الصحوة الدينية بحاجة إلى صحوة عقلية نافذة تصحح علاقتنا بالتاريخ وبالحاضر وبالمستقبل. ما يحدث أننا نجر ونقبل الانجرار إلى معارك استنزاف ندفع ثمنها واحدة بعد الأخرى .. فمتى سنقرر خوض معارك التاريخ الحقيقية؟

الجانب الآخر من مفهوم القطيعة يمكن ملاحظته في حياتنا الخاصة، فالملاحظ أن لنا آراء معينة نؤمن بها، في حين أن هذه الآراء تحتجب في الحياة العامة المعلنة... وما لم نقارب بين هذه في حياتنا الخاصة والعامة لن نستطيع إحداث التطور المطلوب... وهذه ظاهرة موجودة حتى على مستوى الشعوب المنتمية إلى دول متقدمة وما أطلق عليه «النفاق الاجتماعي»... لكن الفجوة عندنا عظيمة جدا في ما نقوله على المستوى الخاص، ومن وراء الأبواب المغلقة، وبين ما نصرح به في الحياة العامة. فالحياة العامة عندنا مقفرة ومجدبة، ونكرر فيها الكلام التقليدي المتفق عليه. وفي الحياة نجد أن هذا الشخص أو ذاك في حياته الخاصة صاحب رأي وظرف ونكتة، في حين أن صورته هذه تتبدل في الحياة العامة، وكأنها شخصية أخرى تدعو إلى الاشمئزاز، وقد تناولت هذه القضية منذ زمن بعيد، العام 1966 في صحيفة (الأضواء) وقلت ان هذه الثنائية والازدواجية التي نعيشها مازال الكثير من المجتمعات العربية تعيشها، تدفع ثمنها اليوم في ضوء التطورات العالمية. وأنت - بطبيعة الحال - لا تستطيع أن تعيش تناقضا مستمرا، وهذا أخطر مظهر من مظاهر القطيعة... لأنه يستنزف حيوية الأفراد والجماعات.

أما القطيعة مع كل الماضي فلا. والمطلوب نظرة نقدية للتراث الإسلامي. أما أولئك الذين يطالبون بإحياء التراث، لا نقبل منهم أن يطالبوا بإحياء التراث الذي يلاقي هوى في نفوسهم، مع إقصاء ما لا يعجبهم، أو ما لا يتوافق معهم مذهبيا، وقد قال سيد قطب ذات مرة « خذوا الإسلام جملة أو دعوه»، وأقول لدعاة التراث خذوا التراث جملة أو دعوه. ومعروف أن التراث الإسلامي به اتجاهات نقلية وعقلية وصوفية، فإما أن ندرس كل هذه الاتجاهات بعقلانية وموضوعية، وأعتقد أنه من حق هذه الاتجاهات أن تعرف لدى الأجيال المسلمة الشابة معرفة حقيقية، ثم هي حرة بعد ذلك في نقدها أو قبولها أو رفضها.

هل يمكننا القول إزاء الخلاصات السابقة بكل تفريعاتها وجوانبها المختلفة، انها تمثل حالا فكرية تمعن وتبالغ في جلد الذات، بزعم أن المشكلة كل المشكلة تأتي منا نحن، من داخلنا، من دون إعطاء الخارجي أي دور؟

- أعتقد أن الخطاب العربي الذي يفسر بعد جهد الماء بالماء، ويتحدث كثيرا عن المؤامرات الخارجية، وخطابنا العام - كذلك - يتأسس على فكرة المؤامرة، وتوقع المؤامرة وهاجس المؤامرة. لكن المسألة هي مسألة مصالح، فجميع القوى لديها مصالح، وستلجأ كل قوة إلى تحقيق مصالحها بغض النظر عن الوسيلة... سواء كانت بمؤامرة أو عن طريق ممارسة الضغوط... والسؤال لابد أن يطرح لماذا تنجح المؤامرة؟ والسبب وجود هشاشة جمعية، إضافة إلى وجود هشاشة في النظام السياسي العربي، وفي النظام الاجتماعي العربي وقس على ذلك. وقد تكلمنا نحن العرب عن الوحدة العربية قبل الأمم الشرقية ولم نحققها حتى اليوم. بينما حققت هذه الأمم نهضتها الخاصة، والسؤال هل كل خلافاتنا العربية هي نتيجة مؤامرة؟ وهل نفور كثيرين من العرب من العمل المهني والحرفي « مؤامرة » من الأعداء؟

والسؤال الآخر إذا كانت المؤامرة تفعل فينا كل هذا الفعل فمن نحن؟ هل نحن كائنات مصطنعة أم كائنات حقيقية. فالذين يكتبون التاريخ الإسلامي مثلا ويقولون إن شخصا واحدا - والله أعلم إذا كان موجودا فعلا أم لا - وهو عبدالله بن سبأ استطاع بمفرده أن يلعب بكل كبار الصحابة، واستطاع أن يوجه التاريخ الإسلامي الوجهة التي يريدها، وإذا استطاع ذلك فما قيمة هؤلاء الرجال، وما قيمة هذه الأمة... وإذا كانت مؤامرات اليوم التي نتعرض لها مكشوفة منذ عقود طويلة من الزمن، وتفعل فعلها فينا، فما قيمتنا نحن. وفي المقابل فإن جلد الذات والتيئيس غير مقبولين، وفي المقابل توجد عندنا نواقص في الذات العربية الجمعية - وأود هنا التذكير بأن حديثي ينصب على النسيج الجمعي العربي، وليس الإنسان العربي كفرد، فقد أظهر هذا الفرد كفاءة خارج الوطن العربي، وأنه إنسان يتميز بل يتفوق على الكثيرين من يابانيين وهنود وغيرهم، ولكن عندما تأتي إلى روح الفريق العربي تجده على درجة كبيرة من الهشاشة سواء في الوطن الواحد أو في عموم الوطن العربي، فعند هذا الفريق الروح مفقودة بشكل عام، من الجامعة العربية إلى منظمة المؤتمر الإسلامي إلى أصغر بلدية أو مدرسة ابتدائية. وحين يجتمع العربي مع عربي آخر سواء في الوطن نفسه، أو في غيره تجد أن حصيلة العمل الجمعي جدا متواضعة، وليس هناك أي روح للفريق، أو أي احترام للرئيس الذي يلجأ بدوره للاستبداد، أو وجود أي احترام متبادل بين أفراد العمل الجماعي.

وأرى أن ذلك من الأمور الأساسية التي ينبغي تسليط الضوء عليها. إذا ليس مطلوبا الاستمرار في جلد الذات، بل المطلوب هو معرفة الذات، ونقدها بعد ذلك وتشخيص ما بها للوصول إلى ذات أقوى وأفضل.

وفي مشروعي الفكري كله لا وجود فيه لهذا التيئيس والجلد، وإنما ما أقوم به هو الإبانة والإفصاح عن أسباب عدم تحقق الأهداف العربية والإسلامية، ومحاولة تقديم إجابات بسبب هذه المعوقات التي نرفض النظر فيها، ومعالجتها، لذلك فقد حان الوقت للمعالجة والمصارحة والمكاشفة.

ألا تتفق معي على أن إعادة العزف باستمرار على وتر المراجعات أو ما يعرف بإعادة قراءة وعي التخلف، من دون محاولة تقديم توصيف لما نحن فيه، أو عما ينبغي أن نكونه... يمثل إشكالا كبيرا؟

- ليس من مسئولية مفكر واحد، أو فئة من المفكرين والمثقفين أن يقدموا حلولا شاملة، ولكن يجب أن تكون هناك فئة من الأمة تضطلع بالتشخيص والإشارة إلى الأعباء والأدواء والنواقص، وربما يوجد هناك فريق من المفكرين المستقبليين الذين يضعون في ضوء هذا التحليل والتشخيص الحلول المطلوبة. ولكن لابد لفكر الأمة أن يوجد فيه رافد يسعى إلى تقديم الحلول.

وكما نعرف فإن التشخيص الطبي مهم، ويجب على الطبيب أن يكون تشخيصه صحيحا وسليما، لأن التشخيص إذا كان خاطئا، سيكون العلاج برمته خاطئا. ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى وجود الكثير من القطاعات العربية التي ترفض الاعتراف بالتخلف ولا تعيه، وتلف خطابها رومانسية تاريخية ضخمة تذكرنا بالعصر العباسي الأول، بل ويزعمون أننا أبناء عصر المأمون. وأقول نحن العرب المعاصرين لسنا أبناء عصر المأمون، بل نحن أبناء عصر السلطان عبدالحميد العثماني، وأبناء عصر إسماعيل الصفوي... وكل تشكيلاتنا الاجتماعية والمذهبية والطائفية خرجت من تحت عباءة النظام العثماني والنظام الصفوي. وهما نظامان متخلفان، والقوى التي تريد إحياء أي نظام من هذين النظامين هي قوة متخلفة. وأؤكد مرة أخرى لسنا أبناء عصر المأمون، ولسنا أبناء عصر الخلافة، فالعرب المعاصرون بتشكيلاتهم الاجتماعية خرجوا من هذا التاريخ المتخلف. وللمفكر اللبناني الفضل شلق - مؤسس مجلة الاجتهاد مع رضوان السيد - مقولة مهمة في هذا الموضوع، وهي أن العرب يفرون من ألف سنة من الانحطاط، ويقفزون إلى العصر العباسي الأول. طيب... ما الذي حدث خلال الألف سنة من الانحطاط، والمطلوب إذا تشخيص العاهات التاريخية التي أصابتنا، والسؤال كيف يمكن الإصلاح؟ تماما كما يقول أحدهم اني كنت مليونيرا منذ 20 سنة بينما الملح هو معرفة حسابك في هذه اللحظة.. ما هو رصيدك الآن؟

طيب... إلى متى سنظل نشيد أسئلة، ونعيد بناءها، ومن ثم نراكمها، وعندنا الآن تراث هائل من الأسئلة من دون أن نتحرك لبناء الواقع نفسه، كيف ترى إلى هذه القضية في ضوء العزلة التي يعيشها المثقف؟

- إلى أن نستطيع فتح ثغرة في جدار الفعل المسدود، وكما قلت في إجابة سابقة فإننا نطرح أسئلة ونجيب عليها نظريا وبالأقوال والكلام، لكن لا أحد يعلق الجرس. أو يفتح ثغرة في الطريق المسدود، فإذا استطعنا أن نفتح ثغرة فهذه خطوة مهمة، وكما تعلم لو رجعنا إلى واقعنا المحلي في البحرين سنجد أن جلالة الملك قبل 3 سنوات استطاع أن يفتح هذه الثغرة، وقبل ذلك كنا في مشكلات، وكنا نراوح مكاننا منذ عدة عقود، ثم تقدم جلالة الملك بالمشروع الإصلاحي وتوافق فيه مع شعبه، وفتحت الآن الثغرة، ومن مسئولية الجميع السير في هذا الطريق، والمطلوب أن تفتح الثغرات المسدودة على مختلف المستويات العربية أيضا.

فالأسئلة ستبقى إلى أن نفتح منافذ العمل، ومنافذ الفعل.

ورد في كتابك «الحساسية المغربية» تعبير... التوزيع الجغرافي للإهمال مشرقا ومغربا، وتحدثت عن عقدة التفوق ذات الجذور الأندلسية انطلاقا من تصورات ذهنية ونفسية.. وكأنك تشير إلى معضلة الحوار المفقود. سؤالي في ضوء الإشكالات السابقة المطروحة... هل نمتلك قابلية للحوار فيما بيننا بتحوير عبارة مالك بن نبي، وكيف يمكننا إرساء تقاليد حوارية... أليست جزءا من المشكل؟

- هناك خاصية عربية أشرت إليها سابقا، وهي أننا العرب أميل إلى التسميع منا إلى الاستماع. بمعنى أن فضيلة الاستماع من الفضائل غير الشائعة، وهذا شيء مؤسف، فقصة التسميع في الوطن العربي معروفة ومشهورة على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الشعوب. وينطبق هذا الأمر على مراكز الثقل في العالم العربي والإسلامي، فالأقطار والبلدان ذات الإمكانات القيادية تريد تسميع الآخرين عن أمجادها وإنجازاتها، ونريد أن نسمع بعضنا بعضا، ونريد أن نسمع العالم تسميعا، لكننا لا نستمع من بعضنا البعض أو من العالم عن جديده وعن مفيده، وقد قلت انه من حسن حظ البحرين كونها المتصل والمنفصل عن البر العربي، وقد أتاح لنا هذا الانفصال الجغرافي - وليس الانفصال القومي - فرصة الاستماع لإخواننا العرب، أو للعالم، وهذا من الجوانب الإيجابية في المجتمع البحريني، وهي أننا نستطيع أن نستمع، وينسحب الأمر على البلدان العربية الصغيرة، فلبنان عندها فضيلة الاستماع وقد استمع كثيرا، وكذلك تونس... وهذه أمثلة... أرجو أن تتسع دائرتها، وأن تتطور هذه المسألة. ولهذا السبب نرى تقدما في مثل هذه البلدان التي تحسن الاستماع إلى «الآخر » خاصة « الآخر المختلف ».

أما عن تقاليد الحوار فهي مفقودة في المجتمع العربي، وكما نعلم فإن الفرق الإسلامية لجأت إلى السيف بسرعة، ولم يحدث أي نوع من الحوار الحقيقي إلا في أزمان قصيرة جدا، لكن عندما لجأنا إلى فضيلة الاستماع وفضيلة الحوار تطورنا. وأجمل اللحظات في التاريخ الإسلامي ما جاءت في فترات القدرة على الحوار، والاستماع، سواء مع بعضنا بعضا أو مع الآخرين. وتقاليد الحوار لا تنشأ إلا مع التطور الاجتماعي... ولا بد أن يتطور المجتمع المدني المديني العربي بمختلف عناصره السكانية وبمختلف أنواع المواطنين... فالمجتمع المدني شيء مهم جدا لإرساء التقاليد الحوارية، وكذلك تطور الجامعات، والمدارس، وهذا مهم أن يتم تعويد طلبة المدارس على الحوار، وأذكر أننا كنا أثناء الفترة الاستعمارية في مدارسنا كانت عندنا ساعات محددة للقراءة الحرة، وقد اختفت الآن هذه الساعات حسب علمي. وتساءلت في مقال كتبته لماذا تخشى السلطات العربية التربوية والسياسية مقررات الثقافة العامة؟ ونلاحظ أن مقررات الثقافة العامة مختفية من المناهج العربية سواء المدرسية أو الجامعية، لأن مناهج الثقافة العامة تتحدث عن فلسفة التاريخ، وعن التغيير في التاريخ، وعن رياح التغير، وعن الديمقراطية، ومختلف الأفكار التطويرية. وهذا ما لاحظته خلال السنوات الثلاثين الأخيرة... أن العرب وصلوا إلى الاستقلال الوطني لكن كثيرا منهم، يخشون شيئا اسمه الثقافة العامة. كما أننا لا نستطيع أن ندرس بعض الاتجاهات التي ظهرت قبل ألف سنة، فيوجد تحفظ على المعتزلة، وكذلك ابن خلدون، ومجمل الفلاسفة مثل الكندي وابن رشد، والمتصوفة عليهم تكفير وليس مجرد تحفظ. وهذه اتجاهات داخل التراث الإسلامي، وممنوع الحديث عنها اليوم، وحتى المقررات المدرسية العامة لا تستطيع أن تتحدث عنهم. فأية نهضة نريد إذا كان الوضع بهذا الشكل؟ من يتنكر لتاريخه كيف يمكنه التعامل مع المستقبل؟

بهذا المعنى لابد من الاهتمام بهذه المراحل كلها، أي تطوير المجتمع المدني، وتطوير الحياة السياسية وتقبل الديمقراطية، وتأسيس نظام تربوي جديد يقوم على الحوار، ويهتم ببرامج الثقافة العامة... والتي هي من أهم المقررات في المناهج الدراسية الغربية والأميركية، وتكاد تنافس التخصص. على العكس تماما مما نجده في المناهج التربوية العربية التي ركزت في السنوات الثلاثين الماضية على المواد التخصصية لإشغال الطلبة، وركزت على الأنشطة الرياضية أو أي شي آخر بعيد عن الحوار الفكري. وما نجده اليوم بالضرورة هو حصيلة ما زرعناه، مثل ظهور الفكر الإرهابي المتطرف، والفكر الذي يرفض الحوار، على مستوى السلطة أو على مستوى المعارضة...

لكن الملاحظ أن العالم يشهد اليوم حركة انفتاح رغما عنا، وكما أنك لا تستطيع أن تلبس المجتمع بأكمله لباس العفة، لأن الفضائيات وجميع المؤثرات الأخرى تعمل باستمرار، وهذه تحدث خروقا في لباس أو حزام العفة هذا، وتصل على الدوام الأفكار الجديدة، وتتلاقح بدورها مع جسم الأمة، وهذا الجديد الذي يخلق باستمرار، وهذا الجديد سواء كان صالحا أم سيئا فالأمر مرتبط بنا، ومن مسئوليتنا توجيه هذا التطورالجديد للمصلحة القومية العامة، ولمصلحة تقدمنا الحضاري





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً