في منتصف التسعينات كتب المستشرق برنارد لويس مقالا عن مستقبل الشرق الأوسط قال فيه: إن هذه المنطقة تشكلت بهذا الاسم في مطلع القرن الثامن عشر عندما غزا نابليون مصر. وأضاف أن هذه المنطقة المسماة «الشرق الأوسط» لها مميزات محددة، وهي انها لا تستطيع إدارة شئونها بذاتها، واستشهد بما حصل في مصر عندما غزاها الفرنسيون وانه لم يستطع إزالة نابليون إلا البريطانيون. واستعرض ما حصل عندما احتل العراق الكويت، وانه لم يستطع أحد من الشرق الأوسط القيام بأي شيء، ولذلك كانت القوة الخارجية (الولايات المتحدة) هي التي قررت ما ينبغي فعله.
غير ان الملاحظات الأخرى التي طرحها لويس هي ان الشرق الأوسط كان شرقا أوسطا لحاجة القوى الخارجية إليه. ففي الماضي كانت فرنسا وبريطانيا، وبعد ذلك كانت أميركا والاتحاد السوفياتي. اما الان فالولايات المتحدة وحيدة في الساحة، والمنظومة العربية انتهت، وحل محل ذلك مفهوم الشرق الاوسط الموسع الذي تحتل فيه دول اخرى غير عربية الصدارة (تركيا و «اسرائيل» تحديدا).
وفي مقالته المذكورة أشار لويس إلى أن آسيا الوسطى ومناطق الشرق الأوسط هي جزء واحد ضمن تركيبة ثقافية جغرافية واحدة. وبعد كتابة افكاره بدأت بعض الجهات الأكاديمية الأميركية بطبع وتوزيع خريطة جديدة للشرق الأوسط تشمل آسيا الوسطى وتتبع التقسيم الذي ذكره لويس.
برنارد لويس من أكثر المستشرقين فهما للشرق الأوسط، وتأثيرا على الأوساط الفكرية والسياسية في الغرب. لويس يهودي الديانة، وكان يعمل لدى الاستخبارات العسكرية البريطانية اثناء الحرب العالمية الثانية قبل انتقاله للعمل الأكاديمي، ثم ارتحاله إلى أميركا. هذه النظرة المؤثرة في التفكير الغربي نجدها تترجم حاليا، فالدول العربية والإسلامية آخر من يعنيها ما يحدث في وسط دارها، بل ان الولايات المتحدة لم تعد تأبه بما تقوله دول لها وزنها المستقل والكبير عالميا مثل فرنسا وألمانيا وروسيا، فهي الحاكم الفعلي للمنطقة ...
برنارد لويس يطرح أيضا ان الدولتين المؤثرتين في الدول الاسلامية هما تركيا وإيران، وكل واحدة منهما تقود اتجاها معينا. تركيا تطرح وتقود النهج العلماني بينما تطرح إيران وتقود النهج الديني، وسيتصارع النهجان باستمرار.
وعلى رغم ان الحركات الفكرية في الدول الشرق أوسطية لا ترتبط بإيران وتركيا، إلا ان النهجين المتماسكين شعبيا يبقيان النهج الديني والذي يركز على «الشريعة»، والنهج العلماني الذي يركز على «الديمقراطية».
الخطورة في فهم لويس (المؤثر جدا على صانعي القرار الغربي) هو تصويره لدول غير قادرة على حكم نفسها والتحدث عن هذا العجز على أساس «تحصيل حاصل»، وان هذا العجز ازداد مع بروز الولايات المتحدة بوصفها قوة عظمى وحيدة وانهى الحاجة لوجود دول عاجزة أساسا عن إدارة شئونها. والأخطر من ذلك هو فهم الاتجاه الديني على أساس مناقض للديمقراطية. كما ان النظرة المطروحة للدول الأهم في منطقة الشرق الأوسط ليست مريحة جدا لنا لأننا نحن ضحايا تلك النظرة التي ترتب عليها سياسات استراتيجية بدأنا نراها تتحرك أمامنا مع قرب الغزو الأميركي للعراق.
يطرح أحد المراقبين رأيا يقول فيه: لماذا نعارض الغزو الأميركي، فقد نحصل على ما حصلت عليه كوريا الجنوبية التي تسيطر أميركا على قرارها العسكري والسياسي الاستراتيجي، بينما تمنحها حرية وديمقراطية على المستوى الداخلي، وتساعد نموها الاقتصادي؟
المشكلة في هذا الفهم انه يغفل فروقا كبيرة بين كوريا الجنوبية والعراق (الشرق الأوسط)، إذ لا توجد بالقرب من كوريا الجنوبية دولة مثل «إسرائيل»، ولا يوجد لدى كوريا مصادر طاقة (نفط وغاز) كما هو متوافر لدينا.
وأميركا متناقضة مع نفسها، فهي التي تطرح الديمقراطية وهي التي تقول إن «إسرائيل» دولة ديمقراطية، بينما «إسرائيل» تقوم على أساس نص ديني وليس على أساس إرادة شعبية ديمقراطية. فالدولة العبرية تقول إن الله كتب في التوراة ان فلسطين لها، ولذلك فهي أخذتها، وأميركا (التي لا تؤمن بالنصوص الدينية على المستوى الرسمي) تساند هذا القول وتفرضه بالقوة.
وأميركا أعطت كوريا حرية في القرار الاقتصادي، أما نحن فلن تكون لدينا أية حرية حتى في قرارنا الاقتصادي إلا بعد ان تنضب آخر قطرة نفط، وبعد ان تحترق آخر ذرة غاز موجودة لدينا، وهذا قد يستمر مئتي سنة مقبلة. غير ان ما أغفل ذكره لويس (أو ربما لم يشأ ذكره) هو ان الولايات المتحدة سيظهر لديها اتجاهان: الأول يدعم سياسة الهيمنة على العالم حتى لو تطلب ذلك غزو العراق وغير العراق، والاتجاه الثاني (وهو ضعيف حاليا على مستوى القرار السياسي) سينظر إلى التناقض الفكري والأخلاقي للسياسة الأميركية.
أما نحن الضحايا الذين تطلق عليهم القوات الأميريكة «COLLATERAL DAMAGE» فليس لنا سوى أنفسنا نبدأ بها، ونحترم بعضنا الآخر ونتساند ثم نمسك قرارنا بيدنا، حتى لو بدا ذلك من الأمور الصعبة حاليا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 190 - الجمعة 14 مارس 2003م الموافق 10 محرم 1424هـ