العدد 187 - الثلثاء 11 مارس 2003م الموافق 07 محرم 1424هـ

العراق... فلسطين الأصل فما الحل؟

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

أما أهل الأغراض، أي النوايا المبيتة، والمصالح الذاتية، الكبيرة والصغيرة والوسط، فإنهم يستسهلون أن يبدلوا ويتبدلوا من دون أن يتبدل في الواقع شيء أو يحدث ما يدعو إلى التبدل أو التبديل... وأما أهل المبادئ الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، المنزهون عن الفرضية، الساعون إلى حماية المبادئ وترسيخها وتحكيمها ونصرها والانتصار لها وبها، القائلون بالحق ولو على أنفسهم، الذين لا يُمقتون الله بقولهم ما لا يفعلون، ويلصقون بالصف المرصوص على الحق ولا يبرحونه لأن فيه خلاصهم، ويؤثرون العام على الخاص حتى لو كانت قناعتهم بأن الخاص أصوب من دون أن يجافي العام الصواب، لأن المصلحة، بالمعنى الشرعي والمعيار الفقهي، في الاجتماع غالبة على المصلحة في الافتراق الذي لا تتسوّغه النسبة الأعلى في الحق والحقيقة، لأن هناك حقا أعلى وأعم تجب مراعاته وتقديمه... هؤلاء المشغولون بالمبادئ من دون تعسف في مراعاة المسالك وتعرجاتها وانكساراتها والاقتصار على الضروري في ذلك من دون المضر، هؤلاء يصعب عليهم القفز السريع والعريض من موقع إلى موقع ومن موقف إلى موقف ومن كلام إلى كلام، من دون أن يكونوا متحجرين، أي عقائديين فيما لا يحتمل العقائدية «كالسياسة مثلا، على خلاف» وإن كان كل النابهين المتنبهين يلاحظون أن أكثر السياسيين عقائدية هم أكثرهم قدرة على اللعب على الحبال ونزع المواقف وارتدائها كما ينزعون ويرتدون ثيابهم البالية أو المتسخة أو يحتذون أحذيتهم.

وإني لأتصبب عرقا ويجف الريق في حلقي، والحبر في قلمي والدم في عرقي، أحار وأجد صعوبة بالغة، إذ أحاول أن أفرق تفريقا عميقا يقتضيه واقع الحال بين قضية العراق وقضية فلسطين، في هذه اللحظة الحرجة، وبعدما وضعت فلسطين خلف ظهر الجميع، شعوبا ودولا تقدمية وغير تقدمية وبين بين، (من دون قدرتي على تحديد المقاييس اللازمة للتمييز) وميلي إلى التكفير عن ذنبي النظري والعملي الذي ارتكبته بالشراكة مع حركة التحرر العربي، بالعودة إلى استكشاف جرعة تقدمية في الدول التي صنفناها رجعية، أكبر بكثير من الجرعة التقدمية في الدول التي صنفناها تقدمية، لا لشيء إلا لأنها قالت ذلك ولم نكن متنبهين إلى ما نبهتنا له الآية الكريمة من وجوب التبين في أخبار الفساق، وخصوصا إذا أخبروا عن ذاتهم في هذه اللحظة الحرجة... التي أصبح الجميع فيها على أهبة تقديم استقالتهم من فلسطين بعدما كتبوها بالإهمال على مدى نصف قرن ونيف من الزمان، أو أهبة إقالتها منهم، وبعدما قام الجميع بجهود محدودة ربع محمودة وغير محسودة، من أجل التعبير المأذون به والمبرمج رسميا دعما للانتفاضة، ثم طلعت الشمس على المتظاهرين واستيقظ وانتشر العسس وتفتحت العيون فرأت في الظلمة ما لا يراه الإنسان السوي في الضوء، فأوى الجميع، أحزابا ومتحزبين ومحزوبين ومحسوبين، إلى منازلهم ومخادعهم ومكاتبهم ومقاهيهم، أكلوا مريئا وشربوا هنيئا وأخذوا قيلولتهم ثم نهضوا إلى رياضاتهم اليومية، لتخفيف أوزانهم المادية والمعنوية معا... واستمر الشعب الفلسطيني ليصبح مليون منه مصابين بالتلاسيما وسوء التغذية وفقر الدم ومهددين بأمراض وبائية عصبية وعضوية نتيجة قلة العمل والدخل والنوم والأمن والأمل والطعام، والعيش اليومي تحت وطأة الكوابيس اليومية والجملة الثورية والطفولة اليسارية التي يعاد إنتاجها على خطاب جديد قديم ومفردات إسلامية مقتلعة من سياقها اللغوي والدلالي وعمارتها الفكرية، تمهيدا لكارثة الكوارث في سلسلة الكوارث التي أوقعنا فيها أهل الإرادة، المجردة والعارية من اللحم والعقل، الذين يكابرون التاريخ ولا يصنعونه، يمنعونه ويقطعون الطريق عليه إلينا وعلينا إليه، لأنهم يريدون كل شيء، الآن، ودفعة واحدة، فإذا ما خسروا كل شيء وخسَّرونا، التمسوا لأنفسهم الأعذار وأوصاف الطهارة وألقوا على العقلانيين الواقعيين الموغلين في الدين المتين برفق وأناة وروية وعمق، مسئولية الخسارة ووزعوا ألقاب الخيانة.

وإذا ما اهتديت إلى هذا الفرق أمام هذا الربط الذي يحوِّل فلسطين إلى ذيل للعراق المقصوص الذيل منذ ثلاثين من الأعوام العجاف، وذريعة لما هو أبعد أو أدنى من العراق بما هو شعب وأرض وتاريخ وشعر وحوض عريض من السواد الخصب يتوسط ماءين من ماء التاريخ والحضارة... فإني لابد أن أكون يقظا وحريصا من عدم الخلط بين الشعب العراقي والنظام العراقي، أي بين الخير والشر، أي بين المظلوم والظالم، أي بين الجائع مما تمتع به أو فرّط فيه النظام وبين المتخم من الحرام، بين النافي والمنفي، بين السجان والسجين، بين القاتل والمقتول، بين الصادم والمصدوم. وترتعد فرائصي خوفا من أميركا وأعدائها. أميركا القادمة إلينا بالديمقراطية في حشوات المدافع، وأعداؤها الذين عودونا أن يرشقوها صباحا بحصى الكلام ليناموا ليلا على وطائها تحت غطائها.

وما الحل؟ الحل ألا نتسرع ثانية في وصف الحل. وأن نتشارك في البحث عن الحل. على أساس الاعتدال والوسطية والتسوية بيننا... التسوية المفتوحة على التسوية الدائمة، كما ينفتح السؤال على السؤال حتى لا نتكلس ثانية بالأجوبة الجاهزة.

هذا إذا ما قررنا أن نستقبل ولا نستقيل ثانية من حاضرنا ومستقبلنا باستدعاء الماضي والنوم فيه لأنه سهل، ناجز، بينما المستقبل صعب محاط بعلامات الاستفهام ويحتاج إلى همم صعبة وذمم رحبة تتسع للمختلف وتذِمُّه أي تدخله في ذمتها، أي تحميه لأنه ضرورة، ضرورة الشراكة في إنجاز النهضة واستيعاب وتجاوز الأزمة. فلسطين هي الأصل وكل الفروع إليها، وإلا فلا أصل ولا أصالة ولا أصول ولا فروع لقضايانا

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 187 - الثلثاء 11 مارس 2003م الموافق 07 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً