العدد 187 - الثلثاء 11 مارس 2003م الموافق 07 محرم 1424هـ

العراق ليس نفطا وسياسة فحسب!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

الذين زاروا العراق قريبا وبعيدا عن أعين البوليس السري وعن أعين محترفي السياسة ومنظرِّي الفنادق يجمعون على قول واحد هو: إن العراق سيصنعه أبناؤه من «أهل الداخل»، بعيدا عن تجار الحروب والسياسة المقامرين بأقدار الأوطان في معادلة «النفط مقابل السلطة والجاه» منذ نحو 34 عاما، سواء منهم الذين وصلوا إلى تلك السلطة بالدبابة الإنجليزية المدعومة أميركيا أو أولئك الذين يتوسلون الوصول إليها بدبابة أميركية مدعومة بالإنجليز.

أما القدر المتيقن من مجمل ما يقوله أبناء المدن والريف العراقي فهو ان العراق عصي على الإخضاع والتركيع وان كل ما يتمناه في اللحظة الراهنة هو ما ظل يتمناه طوال الـ 35 عاما الماضية شاعره الكبير مظفر النواب:

يا إلهي إنّ لي أمنية أخرى

أن يرجع اللحن عراقيا وإن كان حزين!

«ولشدة ما بيع واشتري في سوق الساسة المحترفين (موالاة) و(معارضة) فإن جمهور البغداديين والنجفيين والكربلائيين والبصراويين والموصليين ومن أقصى شمال العراق إلى أقصى جنوبه يغنون معا ومع شاعرهم الكبير مظفر النواب: تانيني يا ديرة هلي وخلَّي الرصاص على الچف، أيام المزبَّن ظن تظن يا ايام اللَّف!».

إنهم لا يرتجون خيرا لا من الذين احترفوا المتاجرة بهم في «أم المعارك» المتعددة الأشكال ولا من الذين احترفوا الرفاهية و«تجارة المؤتمرات» ونقل البندقية من كتف إلى أخرى بحثا عن أي طريق للوصول إلى السلطة حتى ولو على يد مدير شركة تجارية أو مصرف منهار مطارد في الليل والنهار.

إنهم يسألون العالم كله وليس محترفي السياسة من بني جلدتهم فقط: هل فعلا لا يوجد في العراق ما يستحق الرعاية والاهتمام والتفكير به غير النفط والغاز وكرسي الزعامة واقتدار السيوف والبنادق وأسلحة الدمار؟؟

أين كنتم عندما اقتيد مئات الألوف من أخيار هذا البلد إلى السجون والمعتقلات ومقاصل الموت والدمار الشامل لهم ولعائلاتهم؟؟!

أين كنتم يوم قتلوا أو نفوا القاص والأديب والروائي والشاعر المسرحي والفنان والمطرب وصاحب القلم واليراع لا لذنب اقترفه سوى أنه أراد أن يثبت لأولئك الساسة والتجار أنه هو صاحب الدار وليس صناع الحروب وعابدي الدينار والدولار؟؟!

أين كنتم عندما جففوا الأهوار وقطعوا الهواء عن النخيل والأشجار؟؟!

أين كنتم عندما حوّلوا بلد الحضارة والعمران إلى بلد الفتن والحروب على الجيران والإخوة التي لم تجلب سوى الدمار والعار والشنار؟؟!

ولأن «أهل الداخل» العراقي يعرفون الأجوبة الصحيحة عن تلك الأسئلة وغيرها الكثير، فإنهم يقولون بملء الفم: لن يبني العراق إلا أبناؤه ممن ذاقوا الأمرين من الجوع والحصار والعض على الجروح وظلوا ممسكين بوطنيتهم ودينهم وقيمهم كماسك الجمرة بين كفَّيه في صيف العراق الطويل. وإنه لا مكان بعد اليوم لمن تأتي بهم دبابات الأجنبي أو وكلاء شركاته المتعددة الجنسية. فالعراق ليس بئر نفط فقط ولا حقلا من حقول الغاز ولا جغرافية سياسية تؤمن السيطرة أو النفوذ لهذا أو ذاك.

إن العراق، كما يقول أهله العاضون على الجروح من «أهل الداخل»، شعب حي بأقوامه وأعراقه وأتباع معتقداته المتنوعة، يتوق إلى العيش الكريم في ظل خيراته الكثيرة وحضارته العريقة وثقافته الفنية بإرادة مستقلة لا يصنعها ولا يرعاها ولا تترعرع وتكبر وتنمو إلا على يد أدبائه وشعرائه وفنانيه ومزارعيه وعماله وأخيار التجار فيه وعلمائه ومثقفيه الأصليين الذين يمتلئ بهم العراق ولا حاجة إلى أن يؤتى بهم من الخارج بالضرورة وإن كانوا عراقيين ومن حقهم أن يعودوا إلى وطنهم.

يكفي فقط أن ترفعوا أيديكم عنه إذا كنتم صادقين فعلا في رؤيته متحررا من سطوة محترفي القتل والدمار والاستبداد والدكتاتورية والطغيان وتجار السياسة ومحترفيها.

والعراق، كما يقول أهله «المدنيون»، كفيل ببلورة البديل وبآلية داخلية محضة إذا ما قررتم فعلا أن ترفعوا تغطيتكم عن جلاديه ومحاصريه.

وأما إذا ما قررتم الحرب عليه أو غزوه أو حتى الدخول إليه بجيوشكم «سلما»! تحت أي ظرف كان، فإنكم لستم صادقين قطعا بأنكم تريدون الخير له، بل ستؤكدون فقط أن عملاءكم السابقين استنفدوا اعمارهم ومهماتهم، وأنكم بصدد عملاء جدد وبلباس جديد و«دماء» جديدة تريدون ضخها إلينا مقابل استمرار نهب خيراتنا وفي مقدمتها النفط.

هذا ما يجمع عليه أبناء الداخل العراقي والذي يسمعونه إلى كل من يجلس إليهم زائرا بعيدا عن أعين البوليس السري وبعيدا عن «شهوة» المعارضات المرفهة في عواصم المتروبول.

وهؤلاء هم الباقون ومعهم العراق مهما طال زمن الطغيان وتجار السياسة ومحترفيها، القدماء منهم وحديثو النعمة على حد سواء

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 187 - الثلثاء 11 مارس 2003م الموافق 07 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً