الآثار التاريخية القديمة في العراق والتي لا تقدّر بثمن أصبحت مبعثرة على الأرض وفي الأدوار في شكل عشرات الآلاف من القطع والأجزاء، فقد سطا اللصوص على رفوفها، منتزعين التماثيل والفخار والقطع التي تعود إلى حضارة الآشوريين والبابليين والسومريين والفرس والإغريق ورموا بها على أرضية المتحف الإسمنتية.
لقد تعثرت أقدامنا في حطام تماثيل رخامية عمرها 5000 سنة وأحجار نفيسة وتماثيل منحوتة تؤرخ للحقب التي تعرضت فيها بغداد للاحتلال، والعراق للغزو عبر التاريخ، وهي لم تدمر إلا عندما دخل الأميركيون المدينة الآن «لتحريرها». العراقيون أنفسهم هم الذين دمروها، أبادوا تاريخهم الخاص، ودمروا الشاهد المادي على حضارتهم التي دامت آلاف السنين.
مثل هذا الخراب لم يحدث قط على رغم تدمير «طالبان» الآثار البوذية في باميان وتماثيل متحف كابول، ولكن منذ الحرب العالمية الثانية لم يحدث تدمير منظم لنفائس أثرية مثلما حدث للعراق الآن.
وقال رجل عراقي يرتدي عباءة رمادية، عندما أدرنا مصابيحنا لنرى وسط الظلام أكوام الفخار السومري والتماثيل الإغريقية التي نزعت رؤوسها وأذرعها في مستودع المتحف الأثري القومي العراقي: «هذا ما فعله شعبنا بتاريخه. نحن لانريد أن يحمي الجنود الأميركيون ما تخلينا عن حمايته. نحن لانريد الأميركيين في هذا المكان، نحتاج إلى شرطة». ولكن كل ما أعرب عنه حارس المتحف عبدالستار عبدالجبار هو معركة بالأسلحة دارت بين اللصوص والسكان المحليين عبرت الذخائر من خلالها فوق الرؤوس خارج المتحف متجاوزة جدران مجمعات الشقق المجاورة. وقال عبدالجبار: «انظروا إلى هذه»، وأشار إلى كتلة من آنية فخارية ضخمة تحطمت أطرافها المزينة والمنقوشة بدقة بحيث أصبحت الجَرَّة ـ بطول قدمين في شكلها الأصلي ـ مهمشة إلى أربعة أجزاء. وأضاف عبدالجبار: «هذه جرّة آشورية»، والآشوريون حكموا حوالي 2000 سنة قبل الميلاد.
إذا ماذا يفعل الأميركيون كحكام جدد لبغداد؟ لماذا عينوا صباح أمس الأول رجال شرطة صدام السابقين لحفظ القانون والنظام نيابة عنهم؟
إن آخر جيش قام بمثل ما قام به الأميركيون في بغداد هو جيش ماونتباتن في جنوب شرق آسيا الذي استخدم الجيش الياباني المهزوم للسيطرة على شوارع سايفون بعد إعادة احتلال الهند الصينية في العام 1945.
كان هناك أمس الأول صف من الشرطة البغدادية السابقة في زي محترم خارج فندق فلسطين بعد أن سمعوا دعوة أذيعت بالراديو موجهة إليهم لاستئناف «واجباتهم» وحفظ الأمن في الشوارع. وفي وقت متأخر بعد الظهر، كان هناك على الأقل ثمانية ضباط شرطة كبار سابقون ـ يرتدون جميعهم البذلة الخضراء ـ لون زي حزب البعث نفسه ـ عرضوا خدماتهم للأميركيين إذ رافقتهم بعد ذلك قوات من المارينز ولكن يبدو أنه لا توجد رغبة في إرسال جزء منهم لحماية مقتنيات المتحف القومي.
ولكن «التحرير» تحوّل إلى احتلال من قبل. فالجنود الأميركيون الذين واجههم حشد غاضب من العراقيين في ساحة الفردوس يطالبون بحكومة عراقية جديدة «لحمايتنا وأمننا وسلامتنا»، والذين يجب أن يوفروا الحماية، وقفوا مصطفين في مواجهة الحشد العراقي واضعين أصابعهم على زناد أسلحتهم.
والحقيقة التي فشل الأميركيون، وطبعا رامسفيلد، في فهمها أنه تحت حكم صدام، الغالبية الفقيرة هي التي حرمت واُضطهدت على أيدي أنصار حزب البعث، ولذلك الآن سدنة النظام السابقون هم الذين يعانون ويتم سلبهم من قبل الفقراء والمحرومين السابقين الآن. ولهذا كانت هناك معركة بالأسلحة بين ملاك الثروات واللصوص. وبالفشل في إنهاء هذا النزاع فإن الأميركيين يساعدون في إثارة حرب أهلية في بغداد.
لقد قدت سيارتي حول المدينة لأكثر من ساعة، شاهدت خلالها مئات الأشخاص يقيمون متاريس وحواجز مشتعلة وذلك بإشعال سيارات أو جذوع أشجار، يراقبها رجال مسلحون مستعدون لقتل الغرباء الذين يهددون منازلهم أو محلاتهم التجارية، وهي حال شبيهة بالكيفية التي اندلعت بها الحرب الأهلية في بيروت العام 1975.
قليل من دوريات المارينز تجرأت على المجازفة بدخول الضواحي إذ اتخذت مواقع لها بالقرب من المستشفيات التي نهبت هي الأخرى من قبل، ولكن النيران اشتعلت في المدينة في الغسق لليوم الثالث على التوالي.
لم تكن هناك كهرباء ولا ماء في بغداد في ظل انعدام النظام والقانون. وفي المتحف دمرت كل الجرار والأواني الفخارية التي يعود تاريخها إلى 3500 قبل الميلاد. وسبق أن تعاون علماء آثار غربيون ومحليون قبل 200 عام في جمع مقتنيات هذا المتحف من الحضارات القديمة، من القصور والهياكل البابلية والآشورية والمقابر القديمة التي يعود تاريخها إلى ثلاثة آلاف عام.
ويعتقد أن اللصوص الذين جاءت غالبيتهم من مدينة صدام التي يقطنها الفقراء لا يعلمون عن قيمة هذه التماثيل والفخار، وبالتالي فإن ما ألحقوه من أضرار ودمار بالمتحف كان نتيجة للجهل والغضب العارم. وفي مكتبة المتحف يبدو هناك قليل من الكتب سرقت، وهي كتب تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر.
وعثرت على سلسلة من مجلة جغرافية منذ العام 1893 إلى 1936 مازالت سليمة، وكان بجوارها غلاف بعنوان «بغداد... مدينة السلام». وكان لعلماء الآثار البريطانيين والفرنسيين والألمان دور رائد في اكتشاف كثير من الكنوز الأثرية الرائعة في العراق.
قبل أسابيع قليلة أشار رئيس مجلس إدارة المقتنيات والآثار، جابر خليل إبراهيم، إلى محتويات المتحف باعتبارها «تراث أمة»، وأضاف: «ليست فقط أشياء للمشاهدة والمتعة ولكننا أيضا لنستمد قوتنا منها في نظرتنا إلى المستقبل، إنها تمثل مجد العراق»، والآن تلاشى خيال السيد إبراهيم إذ لا أحد يحمي هذا التراث.
سيدة عراقية صرخت في وجهي باللغة الإنجليزية صباح أمس: «أنت أميركي» إذ اعتقدت خطأ أنني من الولايات المتحدة الأميركية، «ارجع إلى بلدك. اخرج من هنا. أنت غير مرغوب فيك هنا. نحن نكره صدام ولكن الآن نكره بوش لأنه لم يحمِ مدينتنا». واحسرتاه عليها! إنها لم تزر متحف الكنوز الأثرية لترى بنفسها أن تراث وطنها ـ بالإضافة إلى تراث مدينتها ـ قد دُمِّر تماما
العدد 220 - الأحد 13 أبريل 2003م الموافق 10 صفر 1424هـ