كان محمد أركون ولايزال يؤمن بأن الامتداد الطبيعي لهذه الحضارة يتمثل في الفضاء المتوسطي، لذلك نجده لا يتردد في تذكيرنا بالفارق بين أوروبا والغرب.. أوروبا التي تفاعلنا معها.. أوروبا القريبة منا جغرافيا وحضاريا، هي الرهان الذي ينبغي تعزيزه، أما الغرب/ أميركا فهي حالة خاصة لم تتأسس على حضارات.. فهي عديمة التاريخ، وإن ما نشاهده اليوم ليؤكد في زاوية من زواياه حقيقة هذا الأمر.
وإذا كان الدرس الاستشراقي، والثقافة الإمبريالية كما جاءا عند إدوارد سعيد بوصفهما منطق وعلاقة قوة تستهدف تحجيم الآخر - مع اختلاف تبريرات ذلك - فإنها لم تحاول محوه، وإلغاءه، وإن حاولت تفريغه من محتواه، وتمثيله، وفرض الهيمنة عليه.
وفي هذه اللحظة يتم تفريغ العراق من محتواه الحضاري والثقافي، في عملية نهب مقننة لثرواته الثقافية التي لا تقدر بثمن.. والتي تمثل شاهدا على حضارات كثيرة تعاقبت على بلاد الرافدين.. فإن الأمر يعود بنا إلى منطق هؤلاء البيض الانجلو - ساسكون البروتستانت (wasp)، - أي الزنابير - وهم يبيدون الهنود الحمر، ويمحونهم من الوجود كبشر، وكتاريخ وحضارة كانت قائمة، تساندهم في ذلك نصوص وقصائد ما ورائية تسبغ على فعلهم القداسة، وتستحثهم لتطهير الأرض من هذه الأدران.
إن الزنابير - وإن أصبحت ألوانهم خليطا ومزيجا - وبعد كل هذه السنوات يعودون مؤكدين خواءهم الحضاري، وانعدام حساسيتهم تجاه هذا الإرث الإنساني العظيم، وهم يطلقون الابتسامات.. وعمليات محو التاريخ في المقابل تتصاعد أمامهم بشعاراتهم البراقة التي لم تتكئ هذه المرة على النصوص التوراتية، وعلى أرض أورشليم الخاوية الخالية التي تحتاج إلى ملء .. بل يستهدفون تجريد هذا الفضاء من أي شيء يحمل قيمة، وها هي العدسات تتفنن في التقاط الصور التي يظهر فيها هذا الشعب - كما يحاولون إيهامنا - على أنهم مجرد لصوص... لقد تم تفريغ المتاحف ونهب ما فيها من قبل أشباح غوغاء بشكل مدروس، وقصف ما قصف، ودمر ما دمر قبل ذلك...
إن ما يجري فريد من نوعه في التاريخ، وإن تشابهت هذه الحال مع حالات أخرى، لكن هذه المرة يتم التدمير من قبل السكان المحليين تحت حراسة من الزنابير لتأمين هذا المحو