بعد مصرع الرئيس العراقي عبدالسلام محمد عارف العام 1966 في حادث سقوط طائرة مروحية ومجيء شقيقه عبدالرحمن عارف خلفا له شهد العراق نوعا من الاستقرار والحرية النسبية، ما وفر فرصة للحركة الاسلامية للتحرك الواسع في العراق من دون أن تتعرض للقمع والاضطهاد. ثم جاءت نكسة 5 يونيو/حزيران العام 1967 والتي شهدت هزيمة للانظمة العربية والتيار القومي في المنطقة ما خلق ارضية مناسبة لتحرك الاسلاميين، فشهد العراق عودة واسعة للدين والالتزام الاخلاقي في الاوساط المثقفة ولا سيما شباب الجامعات ودخلت الحركة الاسلامية في مرحلة جديدة تميزت بالنمو الواسع والقوة المتزايدة حتى بات المراقبون يتوقعون تغيرا وشيكا في خريطة العراق السياسية لصالح الحركة الاسلامية.
وادركت الدوائر الاستعمارية حقيقة الاوضاع في العراق وقوة الحركة الاسلامية وضعف النظام وعجزه عن مواجهتها ،فبدأت الاعداد لمرحلة جديدة للحد من حصول مفاجآت على صعيد السلطة. ووقع الاختيار على حزب البعث للقيام بانقلاب عسكري. وقد كشف التقرير السياسي للمؤتمر القطري السادس لحزب البعث في العراق في معرض تبريره لانقلاب 17 يوليو/تموز 1968م ان من اسباب التعجيل بالانقلاب قطع الطريق امام القوى (الرجعية) من الوصول إلى السلطة، وبعد ان ثبت البعثيون اقدامهم بدأوا بتنفيذ مخطط تصفية التيار الاسلامي فصدر القرار الرسمي بالقضاء على الحركة الاسلامية في 14 ابريل/نيسان 1969م عن القيادة القطرية والقومية لحزب البعث، إذ جاء في القرار ضرورة القضاء على المرجعية الدينية باعتبارها العقبة الكبرى في مسيرة الحزب.
المؤسسة االدينية
وللمؤسسة الدينية تاريخ طويل ودور بارز في التصدي للاحتلال البريطاني للعراق والذي توج بانطلاقة ثورة العشرين في يونيو 1920 والتي تركت اكبر الأثر في مستقبل العراق السياسي وكانت صفحة مشرقة في تاريخ الشعب العراقي برز فيها الدور السياسي بزعامة علماء الدين في التصدي للبريطانيين. فكان لحزب البعث هواجسه من المؤسسة الدينية ذات الموقف الشجاع ضد الظلم والاستبداد. وكان للبريطانيين اليد الطولى في عزل علماء الدين عن الأمة وتشويه الصورة المشرفة لجهادهم لتحقيق استقلالها، ما حدا بالسلطة العراقية الجديدة اقتفاء المشروع البريطاني السابق فمارست الاعدامات والاعتقالات في صفوف العلماء واساتذة الحوزة الدينية فاصبح التداول بالفكر والعمل السياسي من المحظورات المحرمة، والسكوت عن النظام وعدم مشايعته وترديد شعاراته يعتبر مؤامرة. ولجأ النظام الى حملة واسعة لحل المؤسسات الدينية الشيعية منها والسنية على سواء، لانه يشهد على توسع الحركات الدينية في العراق على حساب ما يدعيه من افكار قومية وعلمانية، فاذا اريد لافكاره الصمود ولنظامه البقاء ما عليه الا ان يحشر الطرف المقابل في زاوية ضيقة او الاجهاز عليه.
ولجأ النظام في البداية إلى اتباع سياسات معينة ليستحسنها الشعب منها مناهضة الصهيونية وتحرير فلسطين، ومناهضة الانظمة التي وافقت على الحل السلمي مع «اسرائيل» واعدام الجواسيس واقامة العلاقات مع المعسكر الشرقي وتقديم العون للحركات الثورية في العالم الثالث وتأميم الامتيازات الغربية في العراق... وغيرها من الشعارات البراقة والبرامج الاعلامية.
حزب البعث يأكل ابناءه
وتسلم حزب البعث السلطة في العراق اثر تحالف بين عسكريين متقاعدين وعسكريين داخل السلطة. فقد تحالف مدير المخابرات في حكومة عبدالرحمن عارف الفريق عبدالرزاق النايف ورئيس الحرس الجمهوري اللواء ابراهيم الداود وامر سرية القصر العقيد سعدون غيدان مع ثلاثة عسكريين متقاعدين هم احمد حسن البكر وحماد شهاب وحردان التكريتي، اتفق الجميع على تقاسم السلطة بينهم، وبدأ الانقلاب ليلة 17 يوليو 1968 وقد فتح بوابة القصر سعدون غيدان، ولابد من طلقة مدفع اعلانا عن بدء الانقلاب، وخرج عبدالرحمن عارف وتقرر ابعاده للخارج وتسلم الفريق الجديد مقاليد الحكم.
عين احمد حسن البكر رئيسا للجمهورية وعبدالرزاق النايف رئيسا للوزراء وابراهيم الداود وزيرا للدفاع وسعدون غيدان وزيرا للداخلية. وبعد ثلاثين يوما من الانقلاب تم التآمر على رئيس الوزراء ووزير الدفاع بالاتفاق مع سعدون غيدان على تنحية اصحابه فقد ارسل وزير الدفاع إلى الاردن لتفقد القوات العراقية المرابطة هناك بعد حرب 1967 وأوعز للواء حسن النقيب قائد القوات بتصفية وزير الدفاع، الا ان النقيب همس في اذن وزير الدفاع فغادر الداود إلى تبوك بالسعودية وتم استدعاء عبدالرزاق النايف إلى اجتماع، وهناك كان صدام ورفاقه فتم تكبيل رئيس الوزراء وتسفيره إلى ..... وتم تصفيته هناك العام 1980. ومن هنا صعد نجم صدام واسس بعدها جهازه الخاص (منطقة حزب البعث السرية).
تصفيات بالجملة
تسلم البكر رئاسة الوزراء وحردان التكريتي وزارة الدفاع واختفى صدام لمدة عام، بعدها صدر مرسوم جمهوري بتعيينه نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبهذا التعيين تسلّم منصب نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس الوزراء وقادة الجيش، واعطى رتبة فريق اول ركن وهو لم يدخل كلية عسكرية! وقد سبب هذا التعيين ازعاجا لقادة كبار في الحزب والحكومة والجيش، ومن هنا بدأت التصفيات الجسدية لكل من يعارضه.
بدأت القناعة الراسخة في ذهن صدام من وجود تآمر ضده منذ تسلمه مناصبه الجديدة وتعيينه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة وادى ذلك إلى تصفية مئات الآلاف من العراقيين، فقد اغتيل وزير الدفاع حردان التكريتي ووزير الداخلية سعدون غيدان ورئيس جهاز الأمن العام ناظم كزاز ليبدأ المسلسل مع كوادر رفيعة في الحزب والدولة والوطنيين العراقيين ورجال دين كبار امثال الشيخ عزيز البدري والشيخ عارف البصري والحاج عبدالصاحب دخيل الذي استشهد بعد وضعه في حوض (اسيد) العام 1971.
زيارة كارنغتون
وبعد زيارة السادات «اسرائيل» وقيام جبهة الصمود والتصدي والتقارب السوري العراقي وتوقيع ميثاق الوحدة بين البلدين، قام وزير الخارجية البريطاني اللورد كارنغتون بزيارة بغداد في 2 يوليو 1979 إذ اجتمع مع صدام على انفراد مؤكدا ضرورة تسلمه قيادة العراق بدلا من البكر. واشار الوزير البريطاني إلى الخطوط العريضة لخطة المواجهة المقبلة ثم تلى ذلك زيارة ثانية لوزير خارجية حكومة الظل جورة براون وكان صديقا حميما لصدام وأقنع الاخير بتسلم منصب رئيس الجمهورية والغاء الوحدة مع سورية.
وكانت السلطات تتركز في يد صدام شيئا فشيئا بعد انقلاب 1968 بعام واحد إلى ان أتى الوقت لإزاحة البكر في 17 يوليو 1979 وكان سبب التأخر في تسلم السلطات هو انتظاره إلى ان يستكمل تشكيل جهاز امنه الخاص الذي سيعتمد عليه في إزاحة كل من يظن فيه المعارضة او عدم الاخلاص. تم القضاء على مشروع الوحدة مع سورية من خلال دفع صدام إلى الموقع الامامي بعد إزاحة البكر، وان كان هناك تيار في القيادة لم يحبذ تنصيبه رئيسا للجمهورية واعطائه مناصب حزبية رفيعة ربما لخوفهم منه لانه سيقوم بتصفيتهم لما عرفوه عنه من دموية في التعامل.
تصفيات الرفاق بالجملة
في 18 اغسطس/آب 1979 تم اعدام 22 من كبار قادة الحزب والدولة والحكم على العشرات بالسجن المؤبد. وكان من ابرز الناشطين في ذلك التيار المعارض نائب رئيس الوزراء عدنان الحمداني واربعة من اعضاء مجلس قيادة الثورة هم محمد محجوب، محمد عايش، غانم المشهدي وعبدالخالق السمرائي وهو عضو بارز في القيادة القومية ووزير للتربية وكان معتقلا منذ 1973 ويشغل امين سر قطر العراق في حزب البعث، واشرف صدام بنفسه على تعذيبهم بعد جلسة سريعة في قاعة الخلد ببغداد بتهمة التآمر مع سورية.
وقد ربطت تلك المؤامرة بطرف من وراء الحدود كما جرت العادة في ربط المؤامرات كافة في العالم العربي إذ اختير ضابط سوري يعمل في السفارة السورية في بغداد وقيل انه ضابط ارتباط بين المتآمرين والقيادة السورية! والحقيقة فان اختيار سورية كان الهدف منه القضاء على اي امكانية لتحقيق وحدة بين البلدين وهو الهدف الذي كان حزب البعث يقرع طبوله لسنين طويلة. وفي حملة مسعورة واندفاع عناصر دموية إلى واجهة السلطة واعدام كبار القادة وتشريد آلاف العراقيين تلا ذلك عدة من المكائد ضد افراد القوات المسلحة والأمن العام ورجال الحزب وكوادر متقدمة في الدولة، ووجد شعب العراق نفسه تحت قبضة صدام وجهاز امنه الخاص.
محاربة الوحدة والثورة
وجرى الحديث عن علاقة سورية بتلك المؤامرة بعد ستة اشهر تقريبا من توقيع ميثاق الوحدة بين حافظ الاسد والبكر في دمشق، ثم زيارة الاسد لبغداد، وكان ذلك يعني اجراء انتخابات مشتركة بين القيادتين لادارة دولة الوحدة، وبالتالي صعود شخصيات حزبية عراقية غير صدام إلى المراكز القيادية، اضافة إلى ان الوحدة تشكل تهديدا محتملا لدولة العدو الصهيوني، إذ نقل انذاك عن احصاءات دولية ان القدرة العسكرية السورية العراقية تتألف من 440 الف جندي و830 طائرة و4500 دبابة وقد عقبت وكالة رويترز على ذلك القول:
«ان فعالية المعارضة التي تزعمها العراق ضد معاهدة الصلح المصرية الاسرائيلية ستعتمد على مخارج الوحدة بين سورية والعراق».
اما التعامل مع التحدي الثاني، الثورة الاسلامية في ايران. فقد كان يتطلب اجتياحا عسكريا لحدودها والتوغل في اراضيها لاستنزاف طاقتها التي يمكن ان ترسخ بها جذورها من خلال تحقيقها مكاسب لجماهيرها التي اندفعت معها املا في التغير نحو الافضل. بالتالي تقديم نموذج في المنطقة لامكانية نجاح التجربة الاسلامية على مستوى الحكم.
الا ان ذلك تطلب من الدوائر التي جاءت بحزب البعث وصدام للسلطة تصفية جميع التيارات وخصوصا التيار الاسلامي الواسع في العراق قيادات وكوادر.
وفي مطلع العام 1977 اقدم النظام الحاكم على خطوة من خطواته للحد من الشعائر الدينية الشيعية وذلك بمنعه مراسم عزاء استشهاد الامام الحسين (ع). وفي الواقع ان النظام ومنذ 1970 كان يحاول ومن دون جدوى منعها وخصوصا في كربلاء والنجف، وكان ينطلق كل عام من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، وتنطوي اهمية هذه المواكب على المراسم المرافقة لها إذ ينطلق آلاف المعزين من كل انحاء العراق مشيا على الاقدام مسافة خمسين ميلا ولمدة اربعة ايام مثيرين بذلك المشاعر الحزينة وكذلك حفيظة النظام الذي يعتبر مثل هذه المراسم تحديا صارخا له ولمحاولته القضاء على الروح الدينية لدى الشعب العراقي وتعزيزا لموقع السلطة الدينية التي تمنحها مثل هذه المراسم دعما شعبيا ظاهرا.
تصعيد المواجهة
سجل العام 1979م تصعيدا للمواجهة من قبل سلطات حزب البعث ضد الاسلاميين سواء العاملين ضمن الحركات والاحزاب الاسلامية او يشتبه بكونهم من العاملين معهم، كما شددت الاجراءات الامنية في جميع الجوامع والمساجد والحسينيات والمراقد المقدسة، بحيث كان مألوفا ان يدخل المصلون اي مسجد ليجدوا داخله مجموعة من افراد اجهزة الأمن والمخابرات وهم ينتشرون داخل حرم المسجد او باحته الخارجية يحملون حقائب دبلوماسية توضع فيها عادة المسدسات واجهزة للتنصت والتسجيل، كما كانت اشكالهم تدل عليهم بسهولة.
والحقيقة فان مطاردة الاسلاميين قد بدأت في مطلع السبعينات لضرب المرجعية الدينية باعتبارها تمثل غطاء حاميا للحركة الاسلامية. والإجهاز على الحركة لا يتم الا بعد اضعاف المرجعية المتمثلة في ذلك الحين في السيد محسن الحكيم، وهي تشكل حجر زاوية مهما في تفكير وممارسات القيادة البعثية، الا انها تصاعدت حتى بلغت شكلها الواسع بداية 1977م وما تلاه إذ تمثلت في اعتقال الآلاف منهم، وقد شهد العراق حملات واسعة من الاعتقالات طالت الاسلاميين النشطين الذين تعرضوا لاقسى انواع التعذيب والاعدام من دون تحقيق او محاكمة.
وفي المدن العراقية الكبرى تعرضت جمهرة كبيرة من علماء الدين الكبار إلى الاعدام السريع واغلقت مساجدهم التي كانوا يمارسون فيها اعمالهم العبادية والتعليمية، وعلى سبيل المثال فان محكمة الثورة حكمت بالاعدام على 258 شخصا في 22 جلسة فقط.
أكبر مصدر للمهجرين
وتم اعدام المئات فيما بعد بموجب قرار اعدام الدعاة الذي اصدره صدام حسين في العام 1980م وعرف بالقرار 461، وكان من بين الذين اعدموا بموجبه الشهيد آية الله محمد باقر الصدر واخته الشهيدة بنت الهدى في 8 او 9 ابريل 1980م. وبعد هذه الجريمة المروعة احاط الصمت المطبق بصدام وحزبه، وظلت كل المعلومات المتعلقة باستشهادهما طي الكتمان الا ما ندر منها. وطوردت مؤلفاتهما وصودرت وصارت جريمة تجلب الويل والدمار لكل من يقتني نسخة منها. وبهذا العمل الشنيع قد قتل واحدا من اعظم مفكري الاسلام في القرن العشرين.
وتوالت التصفيات والاعدامات لاعداد كبيرة من العراقيين حتى وصلت الاحصاءات لمنظمات دولية تقدرها بمليوني عراقي وتشريد اكثر من 4 ملايين عراقي في اصقاع العالم المختلفة، وتقدر احصاءات دولية في العام 1996 ان العراق اكبر مصدر للاجئين في العالم، علاوة على الدمار من الحروب والتدهور والحصار، والبقية ... في حرب الاميركان.
القارئ: محمد جاسم الدرازي
العدد 219 - السبت 12 أبريل 2003م الموافق 09 صفر 1424هـ