دعونا نتحدث عن جرائم الحرب. حقا إنني أعرف جرائم الحرب التي ارتكبها صدام، فقد قتل الأبرياء وأطلق الغازات السامة على الأكراد، وعذّب شعبه. وبما اننا أقمنا علاقات جيدة مع هذا الجزّار لأكثر من نصف فترة حكمه المرعب للعراق، فإننا نعتبر مسئولين عن قتل حوالي مليون شخص، وهي الحصيلة الكلية للقتلى في الحرب العراقية ـ الإيرانية بين 1980 و1988. وبينما نهنئ أنفسنا الآن على «تحرير» بغداد ـ وهو حادث يتحول بسرعة إلى كابوس للكثير من سكان العراق ـ فإن الوقت مناسب أكثر من أي وقت آخر لنتذكر كيف ندير هذه الحرب البيولوجية.
دعنا نبدأ من النهاية، مع «ذهب مع الريح»، من سلسلة حوادث النهب والفوضى، وهي الهدية التي تم تقديمها إلى الشعب العراقي بعد التحرير والديمقراطية! لقد بدأت عمليات السلب والنهب في البصرة وقابلها رد فعل مخز من القوات البريطانية لأعمال العربدة والسرقة في المدينة.
وقد أبدى وزير الدفاع البريطاني بعض الملاحظات السخيفة بخصوص هذه الحوادث المخزية عندما قال في مجلس العموم ان سكان البصرة كانوا يحتفلون فقط بتحرير ـ الكلمة نفسها ثانية ـ ممتلكاتهم من حزب البعث!
وقد أقر الجيش البريطاني هذا الهُراء بحماس. وعند عرض الشريط الخاص بعمليات السلب على العالم أخبر المقدم هيو بلاكمان من سلاح الفرسان الملكي الاسكتلندي هيئة الإذاعة البريطانية أنه ليس من اختصاصه التدخل لوقف تلك العمليات. ولكن التدخل لوقف تلك الفوضى من مهماته فعلا.
إن عمليات السلب محظورة كما تنص على ذلك اتفاقات جنيف للعام 1949، وعلى المقدم بلاكمان والوزير هون أن ينظرا إلى «جرائم الحرب» المنشورة بالتعاون مع قسم الصحافة بجامعة لندن لفهم ما تعنيه كلمة «جرائم» بمدلولها الواسع.
فعندما تقوم قوة احتلال باحتلال أراضي دولة أخرى فإنها تصبح مسئولة بشكل أوتوماتيكي عن حماية المدنيين وممتلكاتهم ومؤسساتهم. لذلك فإن القوات الأميركية كانت مسئولة عن السائق الذي قُتل في سيارته في أول يوم من «تحرير» مدينة الناصرية. كما ان الأميركيين في العراق مسئولون عن عمليات النهب التي قام بها مئات العراقيين للسفارة الألمانية والسفارة السلوفاكية يوم الخميس الماضي، والمركز الثقافي الفرنسي الذي تمت مهاجمته، والبنك المركزي العراقي الذي تم إحراقه والذي يُعتبر رمزا للسلطة المالية في العراق.
ولكن البريطانيين والأميركيين ضربوا بهذه الفكرة عرض الحائط مع انها ترتكز على القوانين والأعراف الدولية.
وقد سمحنا نحن الصحافيين لهم بالقيام بذلك، فقد صفّقنا مثل الأطفال عندما ساعد الأميركيون العراقيين على الإطاحة بتمثال صدام أمام آلات التصوير التلفزيونية الأسبوع الماضي.
وواصلنا مع ذلك الحديث عن «تحرير» بغداد، كما لو كانت غالبية المدنيين هناك تنثر الورود على الجنود الأميركيين بدلا من الوقوف في طوابير عند نقاط التفتيش، وهي تراقب عمليات النهب والسلب في عاصمتها. كما ان الصحافيين تعاونوا مع انهيار المبادئ الأخلاقية في الحرب. ولنضرب مثالا على ذلك بالقصف الهمجي لحي المنصور السكني في بغداد الأسبوع الماضي، إذ زعمت القوات الأنجلو ـ أميركية ـ أو قوات التحالف كمازالت تسميها هيئة الإذاعة البريطانية بكل عناد وبُهتان ـ أن صدام وولديه الشريرين عدي وقصي كانوا في تلك المنطقة. لقد قصفوا المدنيين في حي المنصور وقتلوا 14 من الأبرياء غالبيتهم من المسيحيين... وربما يكون ذلك مهما بالنسبة إلى مشاعر بوش وبلير الدينية!
وكان المرء يتوقع أن تتساءل هيئة الإذاعة البريطانية في الصباح التالي إذا ما كان قصف المدنيين يشكل عملا غير أخلاقي، ولربما جريمة حرب مهما تكن المبررات بقتل صدام حسين.
لقد وصف مقدم الأخبار في لندن قتل المدنيين الأبرياء بأنه «تحول جديد» في الحرب لاستهداف صدام، كما لو كان من الصواب قتل المدنيين عن عمد وبدم بارد لقتل الطاغية الذي نكرهه بشدة. واستخدم مراسل الإذاعة البريطانية في قطر ـ إذ يفاخر رجال المخابرات بأن لديهم معلومات استخبارية صحيحة بأن صدام كان موجودا في تلك المنطقة ـ وهي الرطانة العسكرية المعتادة لتبرير ما لا يمكن تبريره. وأعلن المراسل أن قوات التحالف كانت لديها معلومات حساسة متعلقة بالتوقيت، أي انه لم يكن لديها الوقت لمعرفة ما إذا كانت تقوم بقتل أبرياء في سعيها إلى تحقيق هدفها، وان تلك المعلومات التي لها سند معقول لم تكن خالية من المخاطر. ثم واصل المراسل وصف كيفية استخدام الأميركان أربع قنابل زنة 2000 رطل لتسوية منازل المدنيين بالأرض، دون التفكير في القضايا الأخلاقية المرتبطة بهذا العمل.
هذه القنابل هي نفسها التي استخدمها سلاح الجو الأميركي في محاولته العقيمة لقتل أسامة بن لادن في جبال تورا بورا. وها نحن الآن نستخدمها في بغداد عن قصد ضد بيوت المدنيين الذين يستحقون التحرير الذي أردنا منحه لهم، على أمل أن تنجح هذه المغامرة المبنية على معلومات استخبارية خاطئة عن مكان وجود صدام.
إن اتفاقات جنيف تتضمن الكثير بالنسبة إلى المدنيين أثناء الحرب، إذ تشير بشكل محدد إلى المدنيين باعتبارهم أشخاصا يجب حمايتهم حتى لو وُجدوا بين القوى المتحاربة. وطُلبت الحماية نفسها إلى المدنيين في جنوب لبنان عندما شنت إسرائيل عمليتها الوحشية المعروفة بعناقيد الغضب العام 1996. فعندما قام طيار إسرائيلي بإطلاق قذيفة هلفير على سيارة إسعاف وقتل ثلاثة أطفال وامرأة، زعم الإسرائيليون أن مقاتلا من حزب الله كان في السيارة. وقد ثبت عدم صحة ذلك فيما بعد. وأدينت إسرائيل بشكل صريح لقتلها مدنيين، على أمل قتل أحد المقاتلين. ونحن نقوم بالشيء نفسه الآن، ولابد أن ارييل شارون ينتابه السرور، فلن تكون هناك انتقادات غربية بسيطة لإسرائيل بعد إلقاء القنابل الثقيلة المخصصة لتدمير التحصينات الموجودة تحت الأرض على حي المنصور.
ونحن نرتكب هذه الجرائم باطراد، فالمجزرة الجماعية التي راح ضحيتها أكثر من 400 مدني في غارة جوية على ملجأ العامرية في بغداد العام 1991 أثناء حرب الخليج الثانية نُفذّت على أمل قتل صدام. وفي عمليات القصف ضد صربيا العام 1999 قصفنا مناطق مدنية بصورة متكررة، وكانت اسوأ تلك العمليات قيام مقاتلة أميركية في نهاية تلك الحرب بقصف طريق ضيقة فوق أحد الجسور. وقال حلف الناتو إن الجسر كان يستخدم لمرور الدبابات، مع انه لم تكن هناك أية دبابات آنذاك. بل ان ذلك الجسر ضيق بدرجة لا تسمح بمرور الدبابات فوقه، ولكن طيارا آخر عاد لقصف الجسر ثانية بينما كان رجال الانقاذ يحاولون إنقاذ الجرحى. وكان من بين المصابين في الغارة الثانية طالبات مدارس، ونسينا كل ذلك في نشوة النصر.
فلماذا لا نلتزم بقوانين الحرب التي نطالب الآخرين بالالتزام بها؟ لماذا نتستر نحن الصحافيين على هذه الأعمال غير الأخلاقية بتحويل العمل غير القانوني القاسي الخالي من الرحمة إلى «توجه جديد» أو «مادة حساسة تتعلق بالتوقيت»؟.
إن من أعراف الحروب تحويل العقلاء الأسوياء إلى مؤيدين لموقف جديد، وتحويل الصحافيين العقلاء أيضا إلى زعماء عسكريين وهميين ينتابهم الغرور، ولكن يجب علينا بالتأكيد أن نحمل قوانين جنيف معنا إلى ساحة المعركة، ومعها الكتاب الصغير الصادر عن جامعة لندن، لأن المستفيد الوحيد من جرائم الحرب التي نقوم بها سيكون الجيل القادم الذي قد يُفرز الكثير من صدام حسين.
غُطي كرسي صدام بالقطيفة الزرقاء وهو ناعم ومريح في الجلوس، ورُصِّع ذراعاه بالذهب حتى يسند الرجل يديه عليهما بكل رفاهية ـ إذ انه مهووس بيديه كثيرا ـ ولا يوجد باب خلفي في غرفته حتى لا يتمكن أحد القتلة من الدخول من خلاله.
ولا يوجد مسند للقدمين ولكن الأرائك والمقاعد الموجودة حول قاعة الاجتماعات الداخلية الشاسعة لقصر الجمهورية لدى صدام، تضع أي مسئول في مستوى أدنى من الخليفة نفسه.
والسؤال هنا: هل جلست أنا على عرش صدام؟ طبعا، فعلت ذلك، إذ ان هناك شيئا قاتما في أرواحنا يتطلب فهم وادراك الشر أكثر من الخير لأن افتتاننا بماكنة القوة والجبروت أكبر من تأثرنا بالروح الملائكية. لذلك جلست على العرش الأزرق ووضعت يديَّ على مساند الكرسي الذهبية وقمت بمسح شامل للقاعة المتلألئة ذهبا والمظلمة نهارا التي جلس عليها رجال القوة العظمى أثناء ارهابهم للرجل الذي عادة يجلس في المكان الذي جلست فيه الآن. فقد كتب عنه أودين: «كان كثير الاهتمام بالجيوش والأساطيل. ويعرف الحماقة الإنسانية مثل كف يده».
خلف عرش صدام توجد لوحة زيتية للمسجد الأقصى في القدس ـ طبعا من دون وجود للمستوطنات اليهودية ـ فقد وضعت ثالث مدينة مقدسة في الإسلام أعلى رأس أقوى المحاربين العراقيين. وبجانب كرسي صدام ـ لم تكن هناك كهرباء وكانت الغرفة مظلمة أمس وكان الضوء الذي ينير جانب اللوحة الزيتية يحدث لهثا من الدهشة والذعر ـ كانت هناك أعمال فنية مختلفة لحزب البعث، إنها تصور مجموعة صواريخ ضخمة، ولهيب نيران بيضاء تحترق في مؤخرتها، وتستعر نحو سحب متراكمة، وسماء جهنمية، كل صاروخ مكلل بالعلم العراقي الذي يحتوي على كلمة «الله أكبر». تلتقي الوجوه التقية وغير التقية مع بعضها بعضا في هذا الصرح المركزي للسلطة البعثية. تبحث فرقة الكتيبة الثالثة من المشاة التي تمركز أفرادها في القاعات الرخامية وغرف نوم الخدم، الآن من دون جدوى عن الأنفاق الأرضية التي تربط هذا المجمع بالباب التالي المؤدي إلى مستودع قنابل وزارة الدفاع. وقد منع الجنود اللصوص أخيرا ـ على رغم أنني وجدت بعضهم يسرقون تلفزيونات وكمبيوترات في الفلل الصغيرة في أسفل القصر ـ لأنهم يقولون إن الجنرال طومي فرانكس ربما ينشئ إدارته هنا، وإذا استطاع الأميركيون تكوين حكومة عراقية مطيعة، فإن أحمد جلبي وجماعته ربما يسيرون الدولة من هذا المجمع السامرائي خلال شهور قليلة. عند ذلك سيجدون حوض سباحة صدام سليما بجانب حديقة النخيل والورود الواسعة. ويعجب المرء كيف يحيط هؤلاء الوحوش (الجنود) بهذا الجمال ـ إذ يفوح عبق الأزهار من القاعات الرخامية والدهاليز الأرضية لقصر الجمهورية. هناك ورود حمراء وبنفسجية وبيضاء وقرمزية تغطيها فراشات بيضاء. والمياه تتدفق من الحنفيات إلى جذور الأزهار على رغم أن فرقة المشاة الثالثة لم يعثر أفرادها حتى الآن على مضخاتها . وهناك حديقة حيوانات تحتوي على مجموعات نوعية من بيئات شتى، فعيد ميلاد الرجل الثامن والستين ـ إذا كان حيا ـ سيحل خلال أسبوع فقط. وقد كتبت على الباب الأحرف ص. ح. إلا أن أبسط ما يتخيله المرء في زيارة هذا القصر هو «الحكم الفاشستي». ففي قاعة الاجتماعات العظيمة يجلس كبار اللوردات ـ كبار مسئولي حزب البعث، وجنرالات الأمن الذين يعتمد عليهم النظام ـ وهم يحاولون تركيز الانتباه واليقظة أثناء مباشرة زعيمهم تفسيراته وتوضيحاته للوضع العالمي وموقع العراق من العالم. وعندما يتحدث عن الصهيونية يجب أن يحملقوا في لوحة القدس وعندما يغضب يجب أن ينظروا إلى لوحة الصواريخ المتفجرة في تلك السماء...
لقد كتبت كلماته وأقواله وعلقت بعناية على جدران القاعات. وعجبت كثيرا، ماذا يريد الجنرال تومي فرانكس من هذا الصرح؟ وهل تستطيع حكومة «العراق الجديد» حقا عقد اجتماعاتها هنا مع كل هذه المظاهر التخليدية؟ ثم ماذا؟
في الأسفل سينما صدام الخاصة بمقاعدها الجلدية الزرقاء الوثيرة واسطوانتي أفلام ـ احداهما فرنسية والأخرى روسية ـ مازالتا تنتظران عرض الصور النهائية. في الخارج، وخلف المروج والنوافير العظيمة، وقفت دبابات ابرامز الأميركية من الفرقة الثالثة مشاة، تعكس أسماؤها ملامح القوة في دولة أخرى: «الكلب الذري»، «الانثراكس»، «محرقة الأعداء»... وطبعا صدام فقط هو الذي يصدق على هذه الأسماء.
خدمة الإندبندنت
العدد 219 - السبت 12 أبريل 2003م الموافق 09 صفر 1424هـ