جمعتني مع الاستاذ فهمي هويدي جلسة ذات مرة في أحد المؤتمرات الاسلامية بالولايات المتحدة الاميركية، وللمصادفة فقد كان حديثنا عن المذهبية وآثارها السلبية على عالمنا الاسلامي وخصوصا في اتجاهات التكفير والاقصاء. وكان - كما يعرفه جميع قرائه - واضحا وصريحا وناقدا لأفكار التشدد والتطرف والاقصاء، بل وداعيا إلى معالجة هذه القضية الشائكة «المذهبية» عبر مواجهتها بكل صراحة وجرأة. لذلك فقد استغربت كثيرا من مقاله «ملاحظات على مؤتمر شيعة العراق في طهران» المنشور في جريدة الشرق الاوسط بتاريخ 10 مارس/آذار 2003م الذي جاء هادئا وسلسا ويعالج قضية من اكثر قضايا امتنا حساسية وحدّة، إذ وجدت فيه موقفا مغايرا لما عرفته من افكاره التي نسجها في مقالات كثيرة ومتوافقا مع موقف الكثير من المثقفين العرب الذين يتعاطون بشكل حذر مع موضوع «التمذهب» و«الطائفية السياسية» وخصوصا عندما يكون متعلقا بالشيعة بشكل خاص.
ما دفعني إلى الكتابة عن هذا الموضوع هو الاثارات التي ذكرها الاستاذ هويدي عن انعقاد مؤتمر خاص بالمعارضة العراقية الشيعية، وتحديدا في فكرته وتوقيته ومكان انعقاده، وكيف انه تلقى ذلك بحساسية مفرطة واصبح قلقا جدا على مصير «الشيعة العراقيين».
ومع شعوري بوجوب حسن الظن بهذه المشاعر والاحاسيس، فإنني رأيت بأن «حذره الزائد عن حدّه خوفا على مصلحة الشيعة» مبرِّرا اكثر منه سببا حقيقيا، ولم اره يتعاطى بالقدر نفسه من الحذر والقلق مع قضية الاكراد في العراق مثلا على رغم وضوح الانفصال بينها - كقضية خاصة - وبين القضايا العامة في العراق والاعلان عن قيام قيادة موحدة للاكراد. ولاحظت بأن هذا هو الحال السائد لدى الكثير من المثقفين المنفتحين حينما يتعاطون مع المشكلة الشيعية في عالمنا العربي بصورة حذرة جدا من دون وجود مبرر أو تفسير واضح. لا بل ان الكثيرين يتجاوزون المشكلة ليقفزوا إلى النتائج والمطالبات من دون تحديد تطورات الوضع الاجتماعي - السياسي (Sociopolitics) للشيعة في ظل بعض الانظمة السياسية «المتمذهبة» التي مارست عليهم عملية الاقصاء والازاحة بأبشع صورها طوال فترات طويلة من حكمها.
إن السؤل الواجب طرحه في البداية والذي يحتاج إلى اجابة واضحة من كل من يتعاطى مع هذا الموضوع هو: هل هنالك قضايا خاصة بالمسلمين الشيعة في العالم العربي دون غيرهم من ابناء المجتمعات التي يعيشون فيها؟ وهل لهم الحق في التعبير عن تلك القضايا، أم لا؟ اعتقد ان جميع من يتأمل في موضوع الشيعة العرب، يرى أن «تمذهب» النظام السياسي في عالمنا العربي ضد الشيعة قد تحول إلى مسلك ثقافي واجتماعي - بالاضافة إلى كونه دينيا - يمارس بصورة منتظمة مباشرة أو غير مباشرة على جميع الاصعدة ومن قبل غالبية المرتبطين بالنظام السياسي «المتمذهب». ولا يمكن إنكار ما آلت إليه اوضاع الشيعة في العالم العربي على كل الاصعدة في الخمسين سنة الماضية بسبب سياسات الفصل المذهبي، ومن بينها الاقصاء المتعمد عن كل ما من شأنه تعظيم دورهم في شئون بلادهم عموما. ومع كل التحديات والانتكاسات التي مرت على امتنا العربية، لم تكن هنالك مراجعة موضوعية لهذا الملف من اجل إعادة الامور إلى نصابها الصحيح والتعاطي معه كمشكلة وطنية، بل ان الامور تسير إلى الاسوأ بسبب تنامي الشعور الاجتماعي بالفوقية والسيطرة وعدم وضع نظم وآليات المشاركة المتعادلة في إدارة الشئون العامة. بل ان توجه الاقصاء الديني والاجتماعي - المدعوم سياسيا - عمّق المشكلة وجذرها بحيث أصبحت في الكثير من البلدان العربية «معضلة وطنية» يحتاج حلها إلى جهود مكثفة وجرأة كبيرة. لقد افرزت هذه السياسات بصورة طبيعية قضايا خاصة تتعلق بالداخل الشيعي إضافة إلى القضايا العامة التي يشترك فيها الشيعة مع ابناء اوطانهم. ولذلك فلا بد من الاعتراف بوجود هذه المشكلات باعتباره طريقا منهجيا صحيحا لعلاجها وتجاوزها والانخراط في القضايا الوطنية العامة.
ومع الاقرار بذلك، فلم تمنع هذه القضايا الخاصة بالشيعة من مشاركتهم في الشأن العام والدفاع عن القضايا الوطنية بل والقومية طوال مراحل النضال السياسي في عالمنا العربي. فقد كانت مساهمات الشيعة متجهة إلى تجاوز «الذاتية الشيعية» والتضامن مع القضايا الكبرى مع انها كانت احيانا على حساب المصالح الخاصة. والشواهد على ذلك كثيرة لسنا بصددها الآن، ولكن الاشارة إلى العراق تحديدا - بسبب كونه مكان الشاهد هنا - الذي برزت فيه حال «التمذهب» جلية على رغم علمانية وقومية نظامه السياسي، إذ يذكر حسين العلوي في كتابه «الشيعة والدولة القومية في العراق» نماذج كثيرة لتمذهب كل اطراف المؤسسة السياسية والاجتماعية بما فيها المعارضة السياسية التي من المفترض ان تكون حاضنة لكل جهد وطني بعيدا عن الانتماءات المذهبية. كما يشير الدكتور النفيسي في كتابه القيم «دور الشيعة في تطور العراق السياسي» إلى ذلك بقوله «فإنهم - اي الشيعة - ضحوا بالكثير في سنة 1920م في سبيل تحقيق الاستقلال التام للعراق، والتخلص من النفوذ البريطاني، ليجدوا انفسهم هم الخاسرين».
والسؤال التالي هو كيف يمكن التعبير عن هذه المشكلات والقضايا، بصورة تنسجم مع مستلزمات وحدة النسيج الوطني وتساهم في علاجها وحلها؟ ان من حق اية طائفة تعتبر نفسها مضطهدة ان تطرح قضاياها بالصورة التي تراها مناسبة من دون المساس بمقتضيات الوحدة الوطنية، بل ان من حقها القيام بما يناسبها من اجل حماية مصالحها واصلاح النظام السياسي الذي تعيش في ظله. وهذا ما اوقفني في مقالة فهمي هويدي المشار اليها إذ يستنكر ويقلق من عقد مؤتمر لقادة المعارضة الشيعية في العراق تارة من ناحية التوقيت واخرى من ناحية المكان وثالثة من ناحية عدم ضمان صلاحية الحاكم المستقبلي. إن مواقف معظم المثقفين غير الشيعة من هذا الموضوع لجديرة بالدراسة والتأمل، إذ انهم لا يرون انفسهم في موقع المدافع عن ازمة وطنية اسمها «التمذهب» بل قد يتحول بعضهم إلى «متمذهبين» حقا بدل ان يتحملوا دورهم ومسئوليتهم الوطنية والقومية لابعاد هذا الشبح. والادهى ما نتج عن ذلك من انطباعات تحولت إلى مسلمات، فعندما يطالب شيعي بمعالجة موضوع الطائفية ضمن تصور شامل وبصورة تؤمّن اساسا لوحدة وطنية شاملة بعيدة عن التمييز والاقصاء يصبح هذا الشيعي «طائفيا». وبالتالي يكون الضحية من تمذهب النظام والمجتمع هو المتهم بالطائفية والمذهبية، بينما يكون الذي يمارس الطائفية عمليا او يسكت على وجودها هو الوطني المخلص. إن مثل هذه المواقف لا تعبر عن التزام مبدئي ووطني صادق، بمقدار ما تعبر عن انتهازية سياسية تتقاطع مصالحها مع نظام سياسي«متمذهب»، ولا بد من المصارحة في معالجة مثل هذا التناقض في الطرح وكشف المبررات والمسوغات التي تعرض لتمريره. ما هو متوقع ومأمول من كل مثقف وطني غيور على مجتمعه ووطنه وعروبته ودينه ان يكون حساسا لكل حالات التمييز بكل اشكالها وألوانها، وان يمارس دوره في كشف الخروقات للمبادئ الوطنية والانسانية. وعودا على موضوع العراق، فقد شخّص معظم العراقيين وجود هذه المشكلة «المذهبية» وممارسة النظام لها طوال فترة حكمه واتفقوا على مواجهتها بشكل واضح - على الاقل نظريا - وذلك من خلال البيان الختامي لمؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد اخيرا في لندن ونشر بتاريخ 17/12/2002 إذ جاء فيه «لقد تعرض الشيعة في العراق شأنهم في ذلك شأن الطوائف الاخرى طوال المرحلة الماضية، وخصوصا في ظل النظام الحالي للاضطهاد والتعسف والعزل شمل حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والمذهبية، ما اخل بالتوازن الاجتماعي للبلاد وعرض الوحدة الوطنية وروح التآخي والتسامح لاشد المخاطر وأشاع سياسات القمع والاجهزة الخاصة واساليب الخداع والكذب والمناورة للسيطرة على المجتمع العراقي بجميع اطيافه وقومياته بما فيها الغالبية الشيعية ما افقد الشعب العراقي واحدا من اهم عوامل مصاناته ودفاعاته وافسح المجال للسياسات الدكتاتورية والعنصرية والطائفية بأن تصيب العراقيين كافة. لذلك يرى المؤتمر ضرورة الاسراع بتصفية كل السياسات الطائفية وتحريمها ورعاية جميع الحقوق المشروعة المنتهكة للشيعة ويدين السياسات البغيضة المتمثلة بانتهاك حرمة المرجعية والحوزات العلمية والتدخل في شئونها وتطويقها وفرض محسوبيهم عليها، ويدين كذلك قتل مراجع الدين العظام وعوائلهم والعلماء واعتقال وتعذيب الآلاف مما لا يسع المجال لذكره. ويستنكر المؤتمر سياسات التعرض لحقوق المؤسسة والحوزة الدينية في النجف الاشرف وفي بقية المدن المقدسة وتدمير المساجد والحسينيات والمراكز الاسلامية والمكتبات ومنع الكتب وفرض الرقابة عليها وعدم السماح بإقامة الشعائر المذهبية وتدمير قرى وقصبات الشيعة وهدم بيوتهم وتجفيف مناطقهم وتهجيرهم واستقدام مواطنين من بلدان اخرى لتوطينهم في اراضيهم والتشكيك بانتماء الشيعة العرب العراقيين لامتداداتهم العربية وبلدهم العراق، وتهجير الشيعة العراقيين من غير العرب، من خلال التنكر لعراقيتهم وإسقاط الجنسية العراقية عنهم وحجز ابنائهم ومصادرة ممتلكاتهم. ويرى المؤتمر ان الدستور العراقي الجديد يجب ان يضمن عدم تكرار هذه الاعمال وحماية جميع مكونات الشعب العراقي من دون تفريق».
اعتقد ان هذه هي الصورة الصحيحة التي يجب ان تعالج بها قضايا التمييز وآثارها المدمرة بعد ان يتم كشفها وتوضيحها بكل تجلياتها والاعتراف بوجودها من دون مواربة أو تستر. واتمنى من الاستاذ الكبير هويدي ان يظل علما مدافعا عن قضايا المسلمين الداخلية بالصورة التي يدافع عنها في الخارج وعلى المستوى نفسه من الجرأة والصراحة، وان تظل رايته مرفوعة ضد كل اشكال التمييز والتمذهب
إقرأ أيضا لـ "جعفر الشايب"العدد 216 - الأربعاء 09 أبريل 2003م الموافق 06 صفر 1424هـ