البعض يردد مقولات قد يكون جزء صغير منها صحيحا، من ان البحريني ليس منضبطا وغير مطيع ولا يقبل الاعمال المختلفة كما هو الحال مع غير البحريني.
غير ان مثل هذا الحديث ينقصه السند التاريخي والواقعي. فتاريخيا كان اهل البحرين في المقدمة سواء قبل صناعة اللؤلؤ أو بعدها عندما انتقل الكثير منهم إلى العمل في شركة النفط (بابكو) وتمكنوا في فترة وجيزة من احتراف مهنتهم بجدارة، حتى ان شركة النفط السعودية (ارامكو) كانت تستعين بهم في تشغيل معداتها.
وعندما دخلت البحرين مجالات الخدمة المصرفية في منتصف السبعينات لم تمر فترة السنوات العشر الاولى واذا بالقدرات والامكانات البحرينية تبرز بقوة، بحيث اصبح في البحرين حاليا خبرات محلية متفوقة جدا. فلقد استطاع البحرينيون ممارسة جميع الانشطة المصرفية، وهم الآن يشغلون مختلف انواع المهن، صغيرها وكبيرها، ويتفوقون في ادائهم ويحصلون على معاشات تناسب ما يقدمونه من جهد في واحد من أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد.
واذا كان هناك دروس نستفيدها من التجربة الناجحة للبحرينيين العاملين في القطاع المصرفي فإن اهمها هو توفير الفرصة لهم للنمو على اساس الكفاءة والمساواة والاحترام. فكثير من البحرينيين يشعرون بالضياع لان الوظائف «المستقرة» في الحكومة قد تم الاستحواذ عليها، والحكومة حاليا ليست بحاجة إلى المزيد.
وعلى رغم ذلك فإن التوظيف (بما في ذلك توظيف غير البحرينيين) استمر في عدد من الوزارات بأساليب لم تختلف عن اساليب الماضي كثيرا. وهذا ما يحبط كثيرا من البحرينيين الذين يرون انفسهم غير مشمولين بهذه الوظائف، وعلى رغم عدم حاجة الدولة إليها في الأساس.
وفي الوقت الذي تستثني بعض الوزارات مجموعات غير قليلة من البحرينيين فإن القطاع الخاص تفرض عليه ظروف اقتصادية من نوع آخر لا توفر دافعا كافيا للبحريني للالتحاق بها. فالقطاع الخاص تفرض عليه البحرنة في جوانب لا يمكن الاستجابة لها، ولا يحبذها البحريني ذاته. فسوق العمل في القطاع الخاص انما هي عدة اسواق، وواحدة من تلك هي سوق العمال الـ «فري فيزا» والعمالة الرخيصة والمطيعة. وهذه الاعمال لا يستطيع البحريني تحملها لان مردودها ضعيف جدا، بينما مستوى المعيشة في ازدياد مستمر. اما العامل السائب فهو يعيش في ظروف اشبه بالعبودية لانه في سوق رخيصة جدا ومرنة وليست هناك اية التزامات قانونية لصاحب العمل الذي يستخدمهما. صاحب العمل يحتاج إلى عمال متدربين يستطيعون القيام بالاعمال ويلتزمون بها ولا يهربون من وظائفهم. فبعض سيدات ورجال الاعمال يقولون إنهم يفضلون الاجنبي ليس لانه ارخص دائما، فالاهم من ذلك الاستقرار الوظيفي والمرونة والانضباط.
هذا الحديث يطرح تناقضا بين ما يسمعه المرء وما يشاهده عندما يتابع القطاع المصرفي، اذ ان قيم العمل مرتفعة جدا لدى البحريني، ولكن المردود ايضا يوفر حياة لا بأس بها للعاملين في القطاع. وهذا الامر لا يمكن تطبيقه بحذافيره في القطاعات الاخرى التي لا تتطلب خبرات مرتفعة. فرجل الاعمال البحريني لديه حسابات الربح والخسائر، ويحتاج إلى الاطمئنان ان العامل والموظف البحريني لن يخيب ظنه ويقبل بظروف العمل في القطاع الخاص، اذ لا يمكن نقل طبيعة العمل في الحكومة إلى هذا القطاع. ففي الحكومة هناك تكلس وظيفي، وهناك عدم التزام في كثير من الاحيان بالوقت والانضباطية في العمل. ولأن العامل في القطاع الحكومي يعلم ان وظيفته شبه دائمة (ما لم تتم خصخصة المجال الذي يعمل فيه) فإنه يأخذ راحته في العمل حسبما يقوم به مسئوله... فاذا كان المسئول متسيبا، واذا كان المسئول يدير اعماله التجارية من مكتبه في الحكومة واذا كان المسئول يرسل العاملين في الوزارة للعمل في منزله، واذا كان المسئول لا يلتزم بالوقت، واذا كان المسئول يحضر ليشرب الشاي والقهوة ويقرأ الصحيفة ويستخدم الهاتف للاتصالات الشخصية، فإن الموظفين العاملين تحت يده يتصرفون كما يتصرف. والبحريني الذي لا يعمل في وزارة ينظر إلى هذه الامثلة غير الحسنة، ثم ينظر إلى نماذج العمالة السائبة فيصيبه الاحباط المضاعف.
ومن جانب آخر فإن برامج التدريب التي تشرف عليها وزارة العمل هي في الغالب فاشلة ولم تحقق للبحريني شيئا يذكر منذ بدء مشروعات البحرنة في مطلع السبعينات حتى الآن. ولعل اكبر دليل على ذلك معهد البحرين للتدريب الذي بدأ بنجاح، ولكن مع السنوات تحول إلى تجمع لمتدربين ترفض وزارة التربية الاعتراف بشهاداتهم ولا توجد برامج فاعلة من وزارة العمل لادخال المتخرجين في سوق العمل بصورة مميزة. وما يزيد الطين بلة ان الحكومة بدأت في انشاء معهد تدريب آخر في المحرق، ولكن هذه المرة وضعته تحت تصرف وزارة التربية. ولعل هذا الاجراء افضل، ولكن ينبغي ايضا ان ينتقل معهد التدريب إلى وزارة التربية للتقليل من الاعمال المتناقضة داخل الوزارات. فهذه التناقضات وتناسخ الادوار يستهلك موازنة الدولة في امور غير منسقة، وربما لا تخدم كما يخدم معهد الدراسات المصرفية الذي يسيطر عليه القطاع الخاص باشراف مؤسسة النقد.
ان البحريني جدير بالاحترام لانه اثبت قدرته، ولكن عددا من وزارات الدولة ما زالت تعيش عقليات متناقضة مع الواقع ولا توفر الخدمة المطلوبة للمجتمع. ولربما تحولت من «خدمة» الشعب إلى «سيدة» منهكة للشعب بحسب تعبير احد المديرين التنفيذيين. لدينا نماذج ناجحة في بحريننا الحبيبة، وما نحن بحاجة إليه هو انفتاح العقول عليها والاستفادة منها
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 216 - الأربعاء 09 أبريل 2003م الموافق 06 صفر 1424هـ