العدد 216 - الأربعاء 09 أبريل 2003م الموافق 06 صفر 1424هـ

عبور القلاع

يباغتنا المتربص في غفلة، يتغلغل نصل الفزع، كأنه يفتك بالأيام ولا يغادر، ويكون الصمت الفتات قوتا. خبطت على الأرواح الجحافل، وازداد اعتلاء القلاع، كانت اللحظة بداية لانحدار الزحف... و هجاء القوافل، كان الرسم يزهو بألوان الربيع المنتشي، لقد قيل فيه الكثير، لكن الذي لم يقال تشبث بالمعاني حينا، والتف حول الأطواق حينا آخر، مع الماضي كبرنا... وبالجروح عبرنا... وما استطعنا الاكتفاء، كلها أمور تتساوى باللقاءات المعهودة، كلهم ينصرفون كي يعيدوا النظر، ربما يستعيدوا خلقهم الجديد، ها هم ينقبون عن سر في «القبور»، عن أوهام... و أغنية وذل أرعن، هل يكتفى بالوعد يا أصحاب؟!

بعد أن تهاوت النار ما بين البحر و بساتين النخيل، تعلموا أشياء كثيرة منها: أن الارتقاء سمة الأحياء، سيد الأوقات، لكن المتربص يمضي بامتلاء الدفء، ينسل بين الحضور... أقواله مدعاة للتأمل... أفعاله نسجت بين حطام هائل... مريب. لماذا لا تتساقط على أعقابكم الغشاوات؟ وتنهش شواهدكم المذابح؟ ولفرط وطأة الخفايا... صارت الأزقة والأرصفة جدرانا تراكمت على الجدران، قمنا بحصد المرارات، وصراخات المستجير، آه تبا «أمن مستجيب؟»، فقأتنا عيون الأطفال، هذا هو درسكم الأول «انغلاق الكرامة»، شتان ما بين الشتاء والقيظ، شتان ما بين فصل يقف في زمن الذبول، وأشجار واقفة تقتلع... تنحر كالشاة، هل ضاق بنا الحال هنا؟ لماذا تغادرنا الولادة؟ لماذا تقولون للمتعلم: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»؟، لكننا وبالقراءة نكتب، ويصير شبق الكتابة لهبا، يسكن قلقا في الصمت المحموم، يتجرأ... يبوح لهالاته المعتمة، يستولي على الأنفاس، يحصي الحروف، النبض، كل ما كان يعني ولا يعني نفسه، أهي الحقيقة أم ضرب من الخيال؟!

تأرجح الوقت، سخر منا و منكم، بحث عن الوجوه... ثم الصور... بعدها أوهامكم، استل حيلتكم، هل بأيدينا أن لا نقع في الفخ؟ نختلف... نبكي... و يظل الجوهر يلمع... يبرق... يظل ترابا و حجارة... ووطن!!

أحدثت الصخور شروخا في المتاهة، حلمنا أن القطار يلهث... و لهثتم... ولهث... حتى تفكك، ثم توقف وكاد يختفي... أهو المسافر... أم أنتم؟ سقط من سقط، وكثر التائهون.. والمحطة ما برحت في انتظار، وكأننا حلمنا بالقطار يطير، وكأنهم يقولون... إنكم بلهاء... ألا تسمعوا الرنين؟ ولم نلمح منكم سوى قوافل الاهتراء، تتكل من الوريد إلى الرشيد، أيها القلم ما بالك لا تحضر الاقتتال، فجميعنا في الضفة التي تغفو «إنها لا تنام»، واصلنا طرق الليل هاتفين: «إن الواحد منا يحمل في الداخل ضده... في الأحشاء ضده... في الأعماق ضده... إنكم ضده»، دعوا لهوكم و استرجعوا المسار!!

تبا لصهيل فرس أدمى الاغتراب حوافره، تبا لصمته... لخنوعه، لمن سكنه وأوهمه حين قال: هذا مكاني... لا أبرحه حتى وإن جاء الأمر مقضيا، ليكتب الجميع في المفكرة: ليس من الجائز أن يعاد رسم ما كتب، أو تفسير النقوش، أو كسر الأواني، فأوراقنا لا نمزقها، ومدادنا لا نسكبه وأقلامنا لا تنتهي، وهذا الزمن كفيل بترتيب الشئون!!

الكل صحا من الغفلة... هل كنتم نياما؟... أم أننا نحلم؟!

أي زمن أنتم عنه تتداولون، الخلفي أم الذي أمام أبوابكم؟ و القطار توقف. ومنكم من يؤكد أنه طار... لماذا الإصرار على التوقف لقطار طار؟ فلا محطات له، ولا أنهار يقطعها، ولا سدود يحتمي بها، مريب حجم هذا الدمار... والسماء وميض، ولوثة الشك والريبة تجاهر حولنا، شردتم الأفكار، واغتصبتم بقايا الأوطان... أرتال من الخرسان، منتصبة في المشهد الجديد، إنهم يأتون ولا يغادرون، و«كرامتكم» تغادركم، وهم لا يغادرون، وكما اعتاد الناصتون أن يتلى على مسامعهم من الآيات الكثير... الكثير، والغصة مرارة، خنجر... يميت ولا تموت، ولأنكم أحياء على أية حال... ولكن ليس بأحياء، قالوا إن قطار «الكرامة» هو الآخر توقف، وآخرون يحلمون بموته... لكنه طار كغيره، دعونا نسدي لكم النصح: تعلموا الدرس الثاني، ولا تنسوا حروف الراء الثلاث: لا تنسوا أن منازلكم أولى بكم، حرثكم، أطفالكم، أوهامكم، أحلامكم، دعوا الكلام يجول في ردهات الموت التي طار منها القطار!!

تبا للحصار... هل نسألكم متى ينجلي؟ يقول الراوي: إنه يستغرق قرنا من الأعوام، و يقولون لن يمهلكم تتذوقون الرحلة مع الراحلين، أين اتجهت قبلتكم بعد صلواتكم الأخيرة؟ هل سرقتم العهد و الوفاء في ظلمة الليل؟ فليلكم طوفان... عري و خزي... إنه لا يستر، سيستدرجكم ثم يبتلعكم إلى أن يمضي بكم من السقوف إلى كهوف الحجر، فصراخات الأطفال وأشلاء العناقيد والأذكياء جعلتكم في الغياب، في الخواء، في العدم، أعدوا ما استطعتم لرحلتكم، فقد اهترأت وجوهكم، ورجعتم عبيدا لأسيادكم، حراسا تعصف بكم الدهشة، أي مجهول للحكاية بعد الضمور، بعد الاحتضار، الزيف قاتم، والمسخ قادم، وها أنتم لا تتلمسوا الإبحار بعد أن طار القطار... إنه مات، و بموتكم... لم يتبق غير البحر والشيطان أو الانكفاء بالأسرار، وحدهم أجدادنا... أبطالنا... أطفالنا... أحفادنا، من نرسم بكلماتهم بقية الأيام، ففي الوطن لهم قبلة، وفي الضمير شرارة متمردة!!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً