ما إنْ يأتي المساء حتى تغص الشوارع والطرقات بل وحتى الدوارات في معظم أنحاء المملكة بمجموعات من الفتية والشباب وبمختلف الأعمار في تسلية عبثية لا طائل منها... هنا تجمع بعضهم في استعراض تنافسي لثياب مزركشة مهلهلة مطلقين صيحات وضحكات مستهترة من دون مراعاة لأدب الطريق ومشاعر المارة. وهناك على تلك الناحية جلس بعضهم يتبادل الهمسات والسيجارة تدور بينهم يفوح عبيرها فتبدو لهم الأحلام حقيقية. وفي زاوية أخرى جلس أحدهم يحتضن هاتفه المحمول ولكن يتحدث مع من؟ في أي شأن؟ ما الذي سيحدث في نهاية المكالمة. لا أحد يعلم مجرد عبث أو بالأحرى جمع بينهم الضياع وعدم الالتزام واللامسئولية. وليت الأمر يقف هنا ولكن الأدهى والأمرّ وجود بعضهم خلف جدران المنازل وفي الأزقة الضيقة المظلمة وفي هدوء الليل والناس نيام إلا من قريب يحصد ما يجري خلف جدران بيته.
أطفال وصبية لا تناسب بين أعمارهم ولا أشكالهم، ولا أعتقد أنهم اجتمعوا هنا للتشاور في أمور مستقبلية ولا للاستمتاع بالمشروبات الغازية التي في أيديهم. في هذه الجلسة الهادئة المظلمة يستنشقون العبير المتطاير في تلك العلب الملعونة حتى تأخذهم النشوة أو يفقدوا الوعي والإدراك. لا أدري ولكم تتمة ما أعنيه.
صورة مألوفة يراها الكثيرون، وقد لا تثير فضولهم ولا تسترعي انتباههم، مجرد فتية تجمعوا لقتل فراغهم، باحثين عن هوية الانتماء بعد أن شل العبث تفكيرهم، وشتت قواهم والتقطهم من لا ضمير له، محولا الفراغ إلى تفاهة وضياع... وإنني إذ أقول هذا لأعجب كثيرا من غياب الدور الموجه والمربي للأسرة وتعهدها لأولادها بالتوجيه السليم وإعادتهم إلى جادة الصواب. فدور الأب لا ينتهي عند توفير الكسوة والزاد والسيطرة المرعبة التي تدفعهم إلى البحث عن الأمان في الشارع.
خطأ كبير أن يعتقد الأب أن توفير الهاتف المحمول للابن والملابس على أحدث صيحة صدّرتها لنا أوروبا ومسايرة هذا ومنافسة ذاك قد يحقق له السعادة أبدا، فقد تعجز عن تغطية احتياجاته فيطلبها من جهات أخرى وبطرق مختلفة تعوّد عليها.
وأنتِ أيتها الأم اللامبالية بالأخطار المحدقة بأولادك. المهم أن تكوني بعيدة عن ضجيجهم وشجارهم وطلباتهم. المهم أن ينشغلوا عنك بالأصدقاء وأنت تتفرغين لصديقاتك بمجاملاتك لتكوني دائما سعيدة. ألا يكفي أن ابنك يمضي النهار لعبا في الشارع لتعطيه فرصة الليل يذهب أين يشاء؟ فقط يخبرك أنه مع صديق، وأنت مشغولة بين أمرين: إما عملك في البيت كالآلة، تنظف وتمسح وتطبخ... إلخ، وإما ـ كما ذكرت ـ مجاملات اجتماعية. لا يا سيدتي، يجب أن يكون ابنك ركيزة مسيرتك اليومية والعملية، فهو النبتة الندية تنحني لأي أمر عاصف. تغريه الكلمة وتسعده المتعة أيا كان مصدرها. وعليك تقويم هذه النبتة وتغذيتها فكريا وعقليا وتربويا، وصقل روحها بالمعارف والعلوم بمختلف منابعها وله من وقتكِ حصة الأسد لغرس المفاهيم الأخلاقية والقيم التربوية لينشأ قويا مؤمنا قويما صالحا لا تزعزعه الرغبات ولا يستسلم للنزوات، ويندفع بنفسه عن الرذائل.
علّميه كيف يشغل وقته في عمل مثمر نافع، وكيف يستغل الوقت في تغذية عقله وإشباع فكره بالمعارف، بدلا من إحساسه بالوحدة والملل، لكي لا يندفع إلى البحث عن المتعة المجنونة الملعونة حتى يصبح عبدا لها. اغرسي فيه حب الوطن، فحب الوطن أقوى وأرقى وأسمى ألوان الحب. به يشغل وقته، ومن أجله يعمل طوال حياته، وإليه يمضي بكل طاقاته وقدراته.
وأعود إليك أيها الأب الفار من بيتك ليل نهار، المتنصل من مسئوليتك وأولادك يواجهون ألوانا من السلوكيات الشائنة، وأنت غائب عن دورك إما هروبا من البيت والتزاماته، وإما لاهثا وراء المركز والثراء. ألا ترى معي أن من حق ابنك عليك أن تكون أول صديق له قبل أن يفر من البيت باحثا عن صديق، وهنا تلعب الأقدار دورها. فإما صديق يحافظ عليه ويحفظه، وإما صديق يقوده إلى مستنقعات الرذيلة. أيها الآباء والأمهات صونوا أماناتكم مادامت في أحضانكم قبل أن تفر إلى أحضان غيركم
العدد 215 - الثلثاء 08 أبريل 2003م الموافق 05 صفر 1424هـ