من يحكم العراق؟ سؤال متفجر بدأ يثير الخلاف بين القوات الغازية. فهناك من يريد ان يعطي ادارة البلاد الى جنرال ميداني ساهم في الاحتلال. وهناك من يريد ان يكلف هيئة تختارها وزارة الدفاع الاميركية تضمن للولايات المتحدة مصالحها. وهناك من يريد ان تشرف قوات الاحتلال على ادارة العراق في «الظل» وتترك الحكم لأبناء البلد.
حتى الآن لم تتفق قوات الاحتلال على صيغة نهائية. واشنطن تريد ان تسيطر على الملف العراقي وتكلف هيئة من الشخصيات الأكاديمية بإدارة العراق في فترة ما بعد الحرب، ولندن تريد اعادة الملف إلى ألأمم المتحدة وتكليف هيئة دولية بالإشراف على ادارة العراق وإدارة اعماره وترك شئون البلاد الداخلية لقوى تختارها الاحزاب المعارضة.
هناك اكثر من صيغة والضحية هو العراق. بلاد الرافدين باتت الآن في مهب «عاصفة رملية» تغشي البصر والبصيرة. نحن الآن في مرحلة ضياع تعيد الى الذاكرة تلك السنوات التي عاشها اجدادانا في اعقاب الحرب العالمية الاولى. آنذاك انهارت السلطنة العثمانية (بلاد الشام تحديدا) بانسحاب القوات العثمانية الى تركيا ودخول الحلفاء ارض الشام والعراق. آنذاك انقسمت الآراء وتوزعت على عشرات التيارات: هذا لا يعترف بالاحتلال ويتمسك بالصيغة العثمانية، وذاك يتعامل مع الاحتلال ويريد دولة عربية مستقلة تضم بلاد الشام وبلاد الرافدين، وبينهما من يريد التقسيم وتوزيع الاراضي إلى دويلات يحكمها الأعيان، وتحتهما من يريد دويلات طوائف وعشائر تتقاسم النفوذ في أطر جغرافية سياسية يربطها جامع اللغة في جامعة عربية.
كل هذا عاشه اجدادانا. ضاعت هوية اجدادنا وتمزقت بين جامعة اسلامية وجامعة عربية، وبين عروبة عثمانية وعروبة قومية، وبين عروبة وحدوية وكيانات مستقلة، وبين وحدة عربية ودويلات انفصالية.
ضاعت هوية اجدادنا في وقت تسلم جنرالات قوات الاحتلال (الحلفاء) شئون «البلاد العثمانية»، واخذوا بتوزيع الغنيمة وتقسيمها بين فرنسا وبريطانيا: هذه لي وهذه لك وفلسطين لوعد بلفور. حكم الجنرالات بلادنا. واشرفت قوات الاحتلال على تنظيم شئون «المستعمرات» التي انتُزعت عنوة من السلطنة العثمانية. كل جنرال تحول الى حاكم مستعمر ودخل المجتمع في اقتتال اهلي على تحديد الهوية الجديدة. هذا لبناني وذاك سوري، وهذا فلسطيني وذاك اردني. وانقسمت الشعوب الى درجات وطبقات يحكمها جنرالات استمدوا «شرعية» الاحتلال من هيئة دولية كانت تسمى «عصبة الأمم».
آنذاك اجتمعت «العصبة» الدولية واعطت شرعية لقوات الاحتلال ووافقت على حكم البلاد تحت مسمى اطلق عليه «الانتداب». كلمة مخففة عن الاستعمار او الاحتلال. قالت «العصبة» آنذاك ان شعوب المنطقة غير مؤهلة لحكم البلاد وادارة شئونها بنفسها. وقالت ايضا ان شعوب تلك المنطقة (بلاد الشام وبلاد الرافدين) بحاجة الى فترة تأهيل لتدريب ابناء تلك المنطقة على ادارة شئون الدولة.
وكلفت «العصبة» فرنسا وبريطانيا بتدريب المنطقة وتحديدا باحتلالها. وكانت الفترة محدودة ومشروطة الا انها امتدت، واستمرت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. في نهاية الحرب العالمية الثانية تبلورت صيغة «الحرب الباردة» وظهرت الى الساحة العالمية قوتان منافستان لفرنسا وبريطانيا. وبسبب ضغوط الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بدأ الاستعمار يتفكك ويرحل من هذه المنطقة وتلك الى ان اختفى تقريبا في السبعينات من معظم انحاء افريقيا وآسيا و«الشرق الاوسط».
تميز «الشرق الاوسط» بوضع خاص فهو منطقة استراتيجية حساسة، لذلك خضعت جغرافيته السياسية لعمليات جراحية قاسية اتسمت بافتعال الدول وتوزيعها على هيئات ومراكز لتبرير قيام دولة «اسرائيل» بحسب ما وعد به اللورد بلفور. هذه الخصوصية وضعت «الشرق الاوسط» فوق قنبلة موقوتة ومتفجرة اطلق عليها «اسرائيل». وبسبب هذه الدولة الغريبة العجيبة عاش «الشرق الاوسط» سنوات القلاقل والانقلابات والحروب الدائمة. وباسم تلك القضية تعرض «الشرق الاوسط» لهجمات وغزوات كان من نتاتجها مثلا انقلاب 1968 في العراق الذي جاء ردا على هزيمة يونيو/حزيران 1967.
الآن وبعد مضي قرابة قرن على حكايات اجدادنا نعيش نحن الاحفاد الحالات نفسها ومرحلة من الضياع في الهوية والسياسة. العراق الآن يتعرض للامتحان التاريخي نفسه. هل هو دولة واحدة ام دويلات؟ هل تقسمه ام تجمعه؟ هل هو مؤهل لحكم نفسه ام بحاجة إلى جنرالات لتدريب اهله على الحكم؟ هل تعطي الامم المتحدة شرعية للاحتلال وتوافق على النتائج السياسية للعدوان العسكري ام تنسحب الجيوش الغازية ويترك حكم العراق لأهله؟
الاسئلة نفسها والمصير نفسه. مئة سنة مضت من العزلة والتمزق والحروب والانقلابات والضياع لنعود إلى السؤال البديهي الاول: مَنْ يحكم العراق؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 215 - الثلثاء 08 أبريل 2003م الموافق 05 صفر 1424هـ