لا شك في أن الخبرات المصرفية في البحرين مازالت هي الأفضل في الخليج، وتنافس أفضل ما هو موجود في البلاد العربية ولاسلامية. فالخبرات البحرينية التي تراكمت منذ منتصف السبعينات لا يستهان بها، وحتى الدول المجاورة ليس بإمكانها الحصول على الخبرات المحلية المتوافرة للبحرين في الوقت الحاضر.
ولعل هذا ما دعا المصارف الإسلامية إلى اعتماد البحرين مركزا للصيرفة الإسلامية، واستمرار الكثير من المصرفيين في الاعتماد على الخدمات المصرفية البحرينية. ولدينا معهد تدريبي تشرف عليه مؤسسة النقد مع المصارف، وهو أفضل معهد في البحرين يستجيب لمتطلبات السوق ولا يخسر من يتدرب فيه، بل إن المواطنين الحاصلين على شهادات تدريبية منه يعملون برواتب عالية تناسب الحياة في البحرين التي ازدادت تكاليفها.
ويحسب لمؤسسة النقد استقامة إدارتها خلال فترات عصيبة، ولكن إدارة المؤسسة بحاجة إلى تطوير لإعطائها الاستقلالية عن وزارة المالية. وهذا هو الاتجاه الحديث في العمل المصرفي، إذ تتجه الدول إلى توفير قدر من الاستقلالية يتراوح بين الأنموذج البريطاني والأنموذجين الألماني والأميركي. فبنك انجلترا (البنك البريطاني المركزي) أعطي في السنوات الأخيرة استقلالية في تحديد سياساته ضمن ضوابط يصدرها وزير المالية للحد من الغلاء وتوفير نسبة نمو حقيقية (بعد إزالة نسبة الغلاء منها). أما النموذج الألماني فيوفر حرية واستقلالية أكبر، بحيث تخضع وزارة المالية للضوابط التي يطرحها المصرف، ويتم ترتيب السياسات بعد مراعاة الضوابط المصرفية.
هذا الأسلوب في الإدارة المستقلة يبعد المصرف عن التأثير السياسي المباشر. فالحكومات عادة ما تضطر إلى اتخاذ إجراءات قصيرة الأمد، بينما المصرف المركزي ـ كما أشرنا ـ تهمّه السياسات البعيدة الأمد. وبالتالي فإن حسن الإدارة المصرفية قد يقع ضحية للاعتبارات السياسية، التي لا تراعي المدى الأبعد والأوسع للمشكلة.
المصارف الألمانية كانت، ولاتزال، من المؤسسات العامة التي قررت وتقرر النهضة الاقتصادية، ومن خلال الاستثمارات في الصناعات المختلفة وفي البحث العلمي والتعليم والتدريب، استطاعت سد العجز الذي يحدث في موازنات الدولة التي قد لا تستطيع تحمل الأعباء خلال فترات الشدة. فبعد الحرب العالمية الثانية، في العام 1948، استحدث المصرف الالماني (بوندز بنك) سياسة صارمة للحد من الغلاء، وعلى رغم معارضة الكثيرين ـ لأن ذلك أدى إلى ضغوط على سوق العمل ـ فإنه وبعد خمس سنوات من ذلك نجحت السياسات الاقتصادية التي ركزت الاستثمارات في القطاعات المهمة وفي المناطق التي تحتاج إليها.
الأنموذج الناجح في مكان ما لا نستطيع استيراده بصورة مباشرة إلى مكان آخر، فلكل بلد ولكل منطقة ظروفها، ولكن هناك مبادئ أساسية لابد من تأكيدها. فمؤسسة نقد البحرين تتمتع بخبرات وإدارة حسنة، ولكنها خاضعة للاعتبارات السياسية التي قد تحد من قدرتها على الاستفادة من الإمكانات المميزة للبحرين، وتوجيه الأنشطة الاستثمارية بعيدا عن المؤثرات المؤقتة.
المكانة المصرفية للبحرين متقدمة على رغم بعض المصاعب هنا أو هناك. فما حدث للبنك البحريني السعودي كان بالإمكان تلافي سلبياته، على رغم أن مثل هذه الأمور تحدث في أي بلد. فحتى في بريطانيا، وعلى رغم وجود أفضل أجهزة الضبط والمراقبة والتقييم، تحدث مشكلات لمصرف هنا ومصرف هناك، كما حدث لمصرف BCCI قبل سنوات ، عندما اكتشفت السلطات البريطانية ما اعتبرته تجاوزات غير مقبولة.
ان ارتباط المصرف بالحكومة يحد من قدرة المصرف على التدخل في بعض القضايا الحساسة التي قد تكون لها مدلولات سياسية. فالمصرف المستقل هو الذي يحافظ على سياسته بعيدا عن الغلاء (ارتفاع الأسعار فوق نمو الاقتصاد) ويحافظ على الإطار العام للممارسة المصرفية ويرشد الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية والمناطق المختلفة بعيدا عن الاعتبارات السياسية الحرجة. والمصرف المستقل عن إدارة الحكومة يستطيع أن يكون أكثر شفافية مع الآخرين لأن ما يقوم به ليس محسوبا مئة في المئة على الحكومة. وهذا ما تعمله بعض الدول عندما تنشر ملف محاضر جلسات إدارات المصارف المركزية لعامة الناس، بل إن هذه التقارير تؤخذ المنطلق لكثير من قرارات الاستثمار في مختلف القطاعات والمجالات.
على أن الاستقلال لا يعني بالضرورة استقلالا تاما، فلربما البحرين بحاجة إلى تدخل سياسي لأن هناك اعتبارات كثيرة لابد من أخذها في الاعتبار، ولكن الاتجاه يجب أن يكون إلى المزيد من الاستقلال والمزيد من فك الارتباط العضوي بين وزارة المالية ومؤسسة النقد. كما أن الاستقلال لا يعني استقلال المصرف في تحديد الأهداف. ففي أكثر البلدان، بما في ذلك بريطانيا، فإن الهدف تحدده الحكومة، مثلا يجب خفض معدل الغلاء إلى أقل من ثلاثة في المئة. ولكن كيفية الوصول إلى ذلك الهدف تترك للمصرف وأساليبه من دون تدخل من الحكومة. ومن خلال هذا الاستقلال الوظيفي تتعزز القوة المصرفية وتتعزز الاستثمارات في المجالات الكبرى.
إن القطاع المصرفي كان ومازال من أهم نجاحات البحرين، ولذلك فإن مسئوليتنا جميعا المحافظة عليه وتطويره. والحوار عن الأفكار المتداولة عالميا إنما يساعدنا على فتح الآفاق نحو المزيد من النجاحات. فالبحرين أصبحت مركزا للصيرفة الإسلامية النامية. وتراكمتا لخبرات لديها منذ بدء أول مصرف إسلامي العام 1979، وهذا وفر للبحرين وجود أموال صرافة إسلامية تزيد على ستة مليارات دولار (أكثر من موازنة الدولة)، وهي في نمو مستمر بمعدل 2,4 في المئة سنويا. والبحرين لديها مؤسسة مالية دولية لضبط أموال الصيرفة الإسلامية على درجة عالية، ما حوّل البحرين إلى مركز لهذه الأنشطة. وفي إبريل/ نيسان 2002 تكونت السوق المالية الإسلامية الدولية واتخذت البحرين مركزا لها بهدف تأطير الأنشطة المصرفية العالمية ضمن نظام موحد بين المصارف والدول المشاركة لتأمين أعمال مصرفية تحقق نموا مستديما بالاعتماد على ضوابط الشريعة الإسلامية، وهذا بحد ذاته فخر للبحرين. ونعتقد أن مزيدا من استقلال مؤسسة النقد (من ناحية التنفيذ) سيزيد البحرين قوة في هذا المجال
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 213 - الأحد 06 أبريل 2003م الموافق 03 صفر 1424هـ