الصراع على الغنيمة بدأ. ومراقبة مواقف الدول الكبرى وتراجعها عن قضايا «مبدئية» تشير إلى وجود نوع من المساومة الصعبة بين القوى المعارضة للحرب في مواجهة المحور الثنائي الذي قاد العدوان على بلد محاصر منذ 12 سنة، ويتفاخر بفوز عسكري «لا مثيل» له على دولة «عالمثالثية» تعيش تحت خط الفقر والجوع وتفشي الأمراض.
المهم أن الدول الكبرى بدأت تعيد النظر في حساباتها، وهي باشرت منذ يومين تسليف مواقف سياسية تشير إلى احتمالات حدوث تغيرات في قراءة مستقبل العراق بعد فترة صدام حسين.
وعلى رغم اهتزاز المواقف لاتزال هناك خلافات في الجوهر تحتاج إلى المزيد من الوقت لتذليلها. فالدول الكبرى حين تتحرك من الصعب عليها القفز من موقف إلى آخر من دون عودة إلى البرلمان والناس لشرح وتفسير التذبذب في الآراء والتصريحات بعد تعبئة استمرت أسابيع في اتجاه تعزيز ثوابت محددة.
الاهتزاز لا يعني انه ليست هناك متغيرات شكلية بدأت تطرأ على مواقف الدول المعارضة للحرب. روسيا مثلا قالت إنها تتمنى انتصار الولايات المتحدة في معركتها لأسباب «سياسية واقتصادية». ألمانيا أيضا قالت إنها تتمنى الهزيمة للعراق وفي أسرع وقت. فرنسا كررت الفكرة نفسها وشددت على أنها مع حليفها الأميركي، ولا تتصور هزيمته في معركته ضد العراق.
هذه الآراء جاءت في لحظة سياسية سيئة لنظام الحكم في بغداد وفي فترة أشارت المعلومات الميدانية إلى وجود تغيرات عسكرية لمصلحة القوات المهاجمة. فالعراق الآن يعيش لحظات عزلة دولية. فالعالم تخلى عنه في وقت لاتزال شعوبه تستنكر الظلم والعدوان.
ويمكن فهم تلك الآراء على أكثر من مستوى. هناك من ينظر إلى التصريحات الروسية ـ الألمانية ـ الفرنسية بأنها محاولة التفاف دبلوماسية على احتمال نجاح واشنطن في الوصول إلى غاياتها (احتلال بغداد وقتل الرئيس العراقي وأسرته). فالتراجع جاء في صيغة التفافية تريد احتواء الهجوم الأميركي دبلوماسيا وإعادته مجددا إلى الأمم المتحدة.
وهناك من ينظر إلى «الاهتزازات» من موقع مختلف، ويرى فيها بداية انقلاب على المواقف المبدئية بعد أن وجدت الدول المعارضة للحرب ان استراتيجيتها أوصدت الولايات المتحدة الأبواب أمامها حين اتجهت نحو ميدان القتال من دون اكتراث باحتجاجاتها.
لاشك في أن الدول المعارضة للحرب العدوانية بدأت تعيد النظر في مواقفها، ولكن تلك الإعادة ليست بالضرورة حركة دائرية معاكسة لمواقفها. فهي في النهاية تريد الاحتفاظ بحد أدنى لهيبتها من دون أن تخسر الرهان على إمكان إعادة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة لتقوم الأخيرة بتغطية العدوان بصيغة دولية تحدد شروط التوازن الجديد الذي أحدثته الحرب في ضوء تغيير المعادلات على الأرض من طريق القوة.
التغيير حصل لكنه ليس كافيا لإرضاء «غرور» الولايات المتحدة الذي عبر عنه بعنجهيّة وزير خارجيتها كولن باول في خطاب ألقاه في بروكسل. فالوزير المذكور أشار إلى احتمال قبول واشنطن بصيغة دولية تصدر عن مجلس الأمن... إلا انه أصر على ان الحصة الأكبر من «الغنيمة» ستكون من نصيب قوات التحالف (الثنائي الأميركي ـ البريطاني).
هذا الموقف الأميركي الذي قاله الأقل تطرفا في إدارة واشنطن يعني ضمنا صعوبة توصل الولايات المتحدة إلى صيغة توافق طموحات الاتحاد الأوروبي في القريب العاجل. فأميركا بحاجة إلى أوروبا... وأوروبا كما يبدو لاتزال غير قادرة على «فك ارتباطها» مع الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي. وهذا يعني أن التسوية واردة بشروط أميركية.
الضحية الأولى في هذا الصراع على الغنيمة كانت ولاتزال الدول الصغيرة والمستضعفة. وتأتي الأمم المتحدة الآن في الدرجة الثانية من ضحايا العدوان. بينما المؤشرات تدل على أن القوة المنتصرة تريد انتزاع شرعية دولية لعدوانها من دون أن تقدم تنازلات جوهرية للمكاسب التي ترى انها حققتها في حربها الخاصة، على رغم أنف العالم وتحت أنظاره.
في كل الحالات الحرب السياسية لم تتوقف. ومعركة العراق هي الأولى في سلسلة حلقات تحاول أوروبا منع وقوعها مستقبلا بالعودة إلى مجلس الأمن لضبط «الملف العراقي» تحت سقف دولي يعترف بالنجاحات الأميركية ولكنه يريد عقلنتها ضمن صيغة تدويل تقوم على فكرة طرحتها فرنسا قبيل الحرب، وتقترح ارسال قوات «القبعات الزرق» للإشراف على نزع «أسلحة الدمار الشامل» وترك مسألة تغيير النظام للشعب العراقي.
هذه الأفكار تبدو متأخرة في وقت بدأت التحولات الجارية على الأرض تدفع باتجاه الحسم النهائي لمصلحة أميركا وضد مصالح أوروبا. وهذا الأمر يزيد من صعوبات دور الأمم المتحدة في حال أرادت أوروبا تدويل الأزمة وأصرت الولايات المتحدة على أمركتها.
بين التدويل والأمركة سيشتد الصراع على الغنيمة. ومن شروط اقتسام الحصص وتوزيعها أن تتخلى الدول الكبرى عن ثوابتها ومواقفها المبدئية. وهذا ما سمعناه قليلا في بروكسل وسنسمعه كثيرا في نيويورك
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 211 - الجمعة 04 أبريل 2003م الموافق 01 صفر 1424هـ