قانون الصحافة والنشر الذي صدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي وعارضه الصحافيون وأصحاب دور النشر والمكتبات ووعدت القيادة السياسية بتعديله لإزالة المواد المتعارضة مع ميثاق العمل الوطني والدستور والمواثيق الدولية ينفذ حاليا بصورة انتقائية، وربما انتقامية، ضد الذين تصدروا معارضة هذا القانون الجائر.
قانون الصحافة والنشر هو ذاته الذي صدر في أيام قانون أمن الدولة، وكل ما هنالك ان بعض التعبيرات استبدلت اسم الادعاء العام، ووضعت مكانه اسم النيابة العامة. ولكن القانون بكل ما فيه من جور وظلم واستخفاف ببني البشر لم يتغير، بل انه ازداد قسوة لأنه يهدد أي شخص يعمل في الصحافة والنشر بالسجن سنوات طوال متى ما شاءت وزارة الإعلام ذلك. وكل ما تحتاجه وزارة الإعلام هو تحريك الادعاء العام (وما أسهل ذلك) ضد هذه الصحيفة أو تلك، أو ضد هذه المكتبة أو تلك، أو ضد هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك، ومن ثم تبدأ النيابة العامة جرجرة رئيس التحرير والصحافيين وبهدلتهم والتحقيق معهم، ثم تخييرهم بين دفع آلاف الدنانير أو دخول السجن بصورة جماعية. هكذا بصورة اعتباطية، وكأن البحرين هي بحرين أمن الدولة التي اعتقد الجميع أننا ودّعناها إلى غير رجعة.
وزارة الإعلام تعتقد انها شاطرة جدا، لأن بإمكانها أن تدعي بأن النيابة العامة مستقلة وهي تمارس دورها في تنفيذ حكم القانون. ولكن ما تعتقده وزارة الإعلام شطارة ما هو إلا «لفّ ودوران» واضح واستخدام غير صحيح للسلطة، خصوصا وان جميع الناس يعلمون بأن قانون الصحافة والنشر إنما هو قانون سيئ يفوق في سوءه ( في بعض الجوانب) حتى القانون «الأم» الذي صدر عنه (قانون أمن الدولة).
إن تنفيذ قانون الصحافة بصورة ملتوية لخنق حرية التعبير عن الرأي لا يبشر بالخير، خصوصا وأن كل المؤشرات تدل على أن الذين يحركون القانون مصرون على الاستمرار في ما يقومون به ولا يشعرون بأي حرج من ذلك.
إن المخجل حقا هو ما حدث من قمع لحرية الرأي، ومخجل أيضا أن يتستر البعض باسم القانون وهم يقمعون حرية التعبير بصورة انتقائية. وهذا يرجعنا إلى ما حدث في الخمسينات عندما طالب أهل البحرين بقانون مكتوب، وكان جواب المستشار البريطاني تشارلز بلغريف استقدام شخص بريطاني من الهند اسمه «مستر بيس» لكتابة القانون. وقام بيس بجلب بعض القوانين البريطانية من الهند ونشرها على أساس انها قانون البحرين. بل ان بيس قام بزيادة العقوبات، فمثلا القانون البريطاني - الهندي كان ينص على عدم التعرض «لملك او ملكة المملكة المتحدة (بريطانيا)»، وهكذا أيضا نقله إلى البحرين بعد أن ضاعف عقوبة السجن على من يتعرض للملكة البريطانية.
وبعد ذلك قال بلغريف إنه استجاب لمطالب الشعب. إلا ان شعب البحرين لم يكن غبيا ـ ولن يكون غبيا ـ إذ طالب بكتابة قانون على أساس صحيح وباستشارة خبراء مثل الفقيه القانوني العربي الكبير عبدالرزاق السنهوري.
الضحك على الذقون في الخمسينات يعاود ظهوره مرة أخرى في مطلع القرن الحادي والعشرين، والأسوأ من ذلك انه يعود في زمن استقبل فيه الشعب بكل ترحاب وتأييد ومساندة وتضحية مشروعات الإصلاحات التي دشنها جلالة الملك.
إن تنفيذ قانون الصحافة والنشر حاليا يبدأ بهذه الصحيفة وبذلك الصحافي، وغدا سيعمم على كل الصحف وكل الصحافيين وكل دور النشر، ولربما نشاهد عودة سريعة وغير حميدة لصحافة أمن الدولة. في تلك الأيام كان الصحافي يذهب إلى مكتبه ليتسلم الأخبار الرسمية وينشرها كما هي من دون إضافة أو تعليق. وحتى لو علق فيتوجب عليه أن يكتب التعليق الذي يوافق البيان الرسمي مئة في المئة، وإذا تجرأ أحد الصحافيين على الخروج بكلمة واحدة فإن له الويل والتنكيل والفصل والاعتقال...
لربما اعتقد البعض بأن الحرب الأميركية على العراق واستخدام الأميركان اسلوب «الصدمة» هو الاستراتيجية للعودة إلى بعض الممارسات الدكتاتورية. وربما يعتقد البعض أن الهيمنة الأميركية ستوفر غطاء يحمي الدكتاتورية في منطقتنا، ولذلك فإن الوقت قد حان للإطباق على الصحافة ومعاقبتها. لعل هذا هو ما كان يدور في خلد البعض.
ولكن الواقع هو أن الكرامة الإنسانية خلقها الله في النفس الإنسانية «ولقد كرّمنا بني آدم» الإسراء/70، وان هذه الكرامة لا يمكن إزالتها أو الحط منها تحت أي غطاء، سواء كان ذلك غطاء قانون أمن الدولة أو غطاء قانون الصحافة والنشر أو أي غطاء آخر.
قد يكون من السهل على من لديه سلطة أن يستخدمها حسب قانون جائر كما هو الحال أيام أمن الدولة، وكما هو الحال مع قانون الصحافة والنشر حاليا، ولكن سهولة الظلم لا يعني أن الظالم سيهنأ بما قام به، لأن الله أكبر من أية قوة في الكون، ولأن المظلوم لديه أكثر وسيلة سلمية للدفاع عن نفسه والانتصار لحقه، والله غالب على أمره
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 211 - الجمعة 04 أبريل 2003م الموافق 01 صفر 1424هـ