يُعد عبدالله النفيسي من الشخصيات النادرة في عالمنا العربي فهو يمتلك رؤى بعيدة الآفاق واسعة المعرفة ولعله من القلائل الذين امتلكوا أدوات النقد المعرفي للتيار الإسلامي ومن الذين مارسوا نقدا معرفيا للحركة الإسلامية من أجل إرشادها وإيصالها إلى مناخات أخرى خارجة عن أدوات تأليه الفعل والانكفاء على فكر «التابو» أو الخضوع إلى عزوفات الكارزمة... وتكتسب اطروحات ومراجعات النفيسي أهمية كبرى باعتباره رجلا صاحب علم وتاريخ وعقلية مضيئة بالمواقف المناصرة للتيار الإسلامي وللحركة الإسلامية بشكل عام فهو من أوائل الذين تخطو لغة المدائح وتأليه الأفراد إلى موقع أوسع أفقا إذ النظرة المؤسسية المبتنية على العقول المختلفة والراجحة في التيار ذاته، وهو من الداعين إلى تنقية الخطاب الإسلامي من لغة الإنشاء والتهويل والميثولوجيا إلى الواقعية والنضج واعتماد الثقافة الرقمية. ونجد ذلك واضحا في مقارباته عبر عدة كتب مارس من خلالها النقد الذاتي من قبيل كتابه الشهير «الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق»، و«أوراق في النقد الذاتي»، و«الحركة الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي» لمجموعة باحثين منهم النفيسي. وحاول النفيسي من خلال بعض هذه الكتب التركيز على بعض الأخطاء التي عاشتها الحركة الإسلامية محاولا بذلك ترشيدها. يقول في بعض ملاحظاته: غياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد: «الحركة بحاجة ماسة إلى مراجعة أساليب العمل ومن هنا صار لزاما عليها أن تطرح أزمتها الإدارية للحوار على الأقل داخل اطاراتها لأن الاستمرار هكذا (رهن الجمود الإداري) الذي تعاني منه هو ضمان أكيد لتراكمات الأخطاء والحؤول دون التصحيح المطلوب. ويبدو - والكلام للنفيسي - أن القيادة السياسية للحركة تركز جهودها في محاولة التصدي للأحوال الطارئة أكثر من التخطيط للمستقبل. فجميع مؤسسات الحركة غارقة إلى أكثر من قامتها في أعمالها اليومية. وهذا الأسلوب في العمل يقلص إمكان التفكير المنهجي ذي المدى البعيد. من دون التفكير على المدى البعيد يتزايد ضغط المشكلات الطارئة، وهذا الضغط - بدوره - يعرقل التفكير في المدى البعيد».
ويضع النفيسي هنا يده على الجرح وهذا واقع مازالت الحركة الإسلامية محل ابتلاء فيه وهو غياب التفكير المنهجي والذي لا يمكن تحقيقه عبر ردات فعل هنا أو هناك... وهذه هي بعض ثغرات الحركة الإسلامية في أكثر من موقع وبالطبع ذلك لا يمكن تحقيقه إلا وفق نظرية المؤسسة التي دعا إليها أكثر من مفكر إسلامي كالسيد الصدر والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهما. لهذا نجد أن الحركة الإسلامية في بعض اطروحاتها مازالت أسيرة الخطابات الوقتية والمرتهنة لكل ما هو جديد... بل نجد الحركة الإسلامة في أكثر مواضعها لا تقوم ولا تتحرك إلا وفق ما أسماها النفيسي ذاته بنظرية «الرجل الوتد» وليس المؤسسة.
عندما تغيب المؤسسة يبقى الواقع مرتهنا باجتهادات فردية وتصبح الساحة الإسلامية مرهونة إلى ذلك ومعتمدة على ردات السلطة الفردية ترصد موازنات مالية ومراكز بحوث في الدول المتقدمة الآن لدراسة العالم لما بعد 20 عاما... ما هي معالمه؟ كيف سيكون وضعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ في حين مازال قسم من الحركة الإسلامية منشغلا بالقضايا الجزئية أو الوقتية، بل مازال البعض يلوك تلك الخلافات التاريخانية، فالبعض مرهون ومسكون بالماضي والبعض محكوم في انتظار ما يخرج له الواقع من أزمات طارئة وكل ذلك - بالطبع - يكون على حساب قوة الحركة وفاعليتها. هناك كلمة لمفكر يقول: «إن من يقرأ التاريخ خطأ فإنه يوظفه إلى غير صالحه»... ولعل ذلك هو سر سقوط جزء من حضارة العرب والمسلمين... بسبب توظيف جزء من التاريخ - على خلفية الصراع القديم - في غير صالحهم، حتى قال شيخ الأزهر السابق محمد سليم البشري مستهزئا بهذه العقليات الماضوية: «مازلنا نختلف على غسل القدم ومسح القدم حتى لم يبق لنا في الأرض موطئ قدم». بالطبع كل ذلك يرجع إلى غياب التفكير المنهجي.
على مستوى البحرين مازال جزء من حركتنا يعيش بعض هذه الثغرات فغياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد مازال بيننا وبينه مسافات على رغم بعض الإضاءات الموجودة في الحركة الإسلامية هنا أو هناك. فمازلنا محكومين بردات الفعل وبالنظرية الفردية في قبال نظرية المؤسسة، ومازالت هذه الثقافة الفردية القائمة على الكرزمة نقدمها تركة إلى أبنائنا، وأبناؤنا سيقدمونها إلى أبنائهم وهكذا... بل مازلنا نحمل هاجس التغيير ومصابين بما يسمى في علم النفس بالرهاب وهو الخوف من الآخر إلى درجة أنه بات الشبيبة في المجتمع يشعرون بأن الإسلام لا يقدر على مناظرة العصر أو تطويع أدواته لصالحه... أصبحت لفظة المؤسسة تخيفنا وكأنها عملية انقلاب على التأجيل على رغم دعوة حتى الفقهاء لها.
وبدأت الجامعة تربكنا، مناقشة أو مقاربة أي فكر انساني قد يخلق لنا اشكالا هنا أو هناك على رغم أن الإسلام والأنبياء تحدوا أعتى الايديولوجيات منطلقين من الآية «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» (النمل - 64).
وهذه أزمة ثقافة شرقية في المنهج إذ مازال التعامل حتى مع المثقفين على طريقة التلقين وليس التفكير وخلق ثقافة قائمة على الأفكار الجاهزة. بالطبع اشكال المنهج الذي قدم له النفيسي مازال اشكالا عالقا فدور التعليم الشعبوي أو الرسمي مازال قائما على القطيعة بما ينتج ابداعا معرفيا. فنحن واقعون بين اشكال عدم ترقي العلوم إلى حيث حاجات العصر وظهور «مفهوم الافلاس» الذي عبر عنه الشهيد الصدر في كتيب «المحنة» وبين اشكالية رسمية تحاول أن تنتج مناهج لا تخرج عن سيطرتها عبر معاهد ودور علم لا تنتج الا فكرا رسميا. مرت على الحركة الإسلامية تغيرات جوهرية على مستوى العالم وكان التعامل دائما بردات فعل. على المستوى العالمي الحرب الباردة (لم تتم دراسة أبعادها على واقع الحركة بطريقة علمية بل الحركة سقطت ضحية هذه الحرب كما حدث في أفغانستان أيام الحرب مع السوفيات وراح جزء من الحركة ضحية بعض دولنا الإسلامية التي دفعت بآلاف الشباب إلى محرقة الحرب، في حرب الخليج الأولى انقسمت الحركة الإسلامية على نفسها بين مؤيد ورافض واستطاعت الأنظمة الوقيعة بين الحركات بالعزف على الأوتار الطائفية، وفي حرب الخليج الثانية تكررت الثغرات ذاتها ووقع جزء من الحركة في المأزق ذاته، وعجزت الحركة عن إعطاء تصور خاص للعالم لما بعد 11 سبتمبر/ أيلول وكل ذلك ناتج بالطبع عن غياب الفكر المنهجي وغلبة الفكر الطائفي
العدد 209 - الأربعاء 02 أبريل 2003م الموافق 29 محرم 1424هـ