بعد طول احتباس
لم يكن البحر من ورائه... ولا الجند من أمامه... ومع هذا صاح : من يشتري سيفي هذا؟ فلطالما أحنى هامتي... حتى كدت أسمعه ذات ليلة يردد: «ما أجدرني برأسك... يشغلك عارك... أما أنا فيقتلني مجرد الشعور بأنه لا فرق بين أن أظل حبيس الغمد أو أن أكون ضيف شرف في حفلة مشبوهة... شلت يد طارقي... لو كنت أعلم انك ستستثمرني كي يسمن عارك، لصرت قيدا أو قفلا لخزانة مرتش أو ربما صولجانا في يد طاغية»!.
كانت أمه لا تميز أباه من وجهه أو حتى زيه، كانت تميزه من سيفه، كان بمثابة ظله، خصوصا بعد أن شاع في الحي أنه الرجل الوحيد الذي لم ير له ظل، حتى وهو في احتضاره ظل محدقا فيه، وضرب بعرض الحائط هلعهم وحزنهم عليه... كان قابضا عليه، حتى بعد أن فاضت روحه، بذلت زوجته جهدا شاقا كي تستطيع انتزاعه من يده!. أما الابن فالرعدة أول ملامحه حين يكون السيف قرينه. يتذكر جيدا ذلك اليوم الذي غزتهم فيه قبيله «الفرارحة»... يتذكر ذلك الفارس الذي انشقت عنه الأرض، وبملامحه الفولاذية المتجهمة، حين رآه ينضح عرقا في ليلة شديدة البرد، كان مندفعا نحوه وحين رآه ملوحا بسيفه... كاد أن يعيد موقفا غابرا... كاد أن يكشف عن عورته ولكن... ما الذي يضمن له أن هذا الفارس سيتمثل الأريحية والمثل العليا ؟... وقبل أن يهوي بسيفه عليه... رأى غريمه في أشد حالات رعدته... اكتفى بالرثاء له... أعقبه ببصقة تليق بفارس مثله... كما تليق بغريمه الرعديد!... أما هو فاكتفى بالتبول بعد طول احتباس!.
مشهد أول
سيدة متهالكة تبحث عن سقف كي تستأنف طريقها الطويل الى حيث لا تدري بعد أن قذف بها ابنها الى الشارع في ليلة ممطرة.
في الجانب الآخر فتاة صارخة التقاطيع تصفع شابا لأنها اكتشفت كذبته فعقد الماس الذي ابتاعه لها لم يكن بلجيكيا بعد أن أوهمها بذلك اكتشفت أنه ايطالي!!! الشاب ذاته ابن للسيدة المتهالكة التي تبحث عن سقف أي سقف!!!.
مشهد ثان
يتيم في حديقة عامة وفي الجانب الآخر منها أطفال وقحون اعتادوا مناداة آبائهم بأسمائهم.
في الحديقة قرروا جميعا أن يتأدبوا، لسوء حظه ظلوا يصدحون بـ «بابا» فيما اليتيم يهمس بنشيج جارح لصورة في يده قد بللها نهر عينيه ظل يهمس «بابا» أمام عراء العالم الذي استفحل أمامه!!!.
مشهد ثالث
لا مجال لإنهاء القصة.... هل هو في طريقه إلى نهاية ستدفعه إلى اعتزال الناس بعد سنوات من الشهرة والأضواء والكاميرات التي حولت ليله إلى نهار ليس كأي نهار؟.
قرر كتابة قصة لم تخطر على بال أحدهم... قرر أن يرسل بطل قصته إلى جحيم متفرد... جحيم ينبعث منه هواء يحيل المكان إلى جليد... قرر أن يرسله الى جحيم من نوع آخر!.
شعر برأسه الثقيلة تستدرجه إلى النوم... استسلم... وحين أمعن في نومه رأى فيما يرى النائم انه يقود عددا من الضحايا الى مساحة أنيقة لا تشبه أية مساحة في العالم مزدحمة بالحور العين وقطيع يرعى مروجا من الزعفران بدل العشب... وأنهارا من ذهب وفضة وعسل وخمر.
استيقظ على صوت بائع الحليب صبيحة نهاية الأسبوع موبخا إياه لتهربه من دفع فواتير الشهر الفائت... مهددا إياه بإرساله إلى جحيم متفرد لا يشبه شيئا... جحيم مكتنز بأنهار من الجمر والقطران... انهار من الذل والفاقة!.
مشهد رابع
امرأة تقود طفلها إلى حيث يلهو... حديقة مليئة بضحايا البرص والجذام... وهو أحدهم.
تتلفت يمنة ويسرة بحثا عن عربة بائع البوظة... تأخر هذا اليوم... تدفعه للاختلاط بمجموعات لا ملامح لها... تكاد تشبهه... ينخرط وسط المجموعة التي لا تكاد تشبه شيئا... ترقبه بعينيها المليئتين بحزن غابر... فيما يظل هو يذرع المكان عدوا... وبينما هو كذلك... يلوح بائع البوظة... يتقاطر عليه الأطفال... فيما الأمهات مشغولات باليقين... أطفالهن في يد أمينة... فبائع البوظة هو الآخر يكاد يكون بلا ملامح... فقد التهمها البرص قبل أكثر من 20 عاما!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 209 - الأربعاء 02 أبريل 2003م الموافق 29 محرم 1424هـ