العدد 209 - الأربعاء 02 أبريل 2003م الموافق 29 محرم 1424هـ

الفن العربي المعاصر... المقاومة بالريشة والإبداع

في الوقت الذي تخوض فيه امتنا العربية عملية مواجهة مع العدو الأميركي البريطاني وعدوانه السافر على العراق، مهد الفنون والثقافة والحضارات، نجد أن الشغل الشاغل للفنون التشكيلية في العالم العربي اليوم، الوقوف في موقعها المهم في حقل الإبداع، والبحث الفني والثقافي وهي تسهم من خلال موقعها هذا في طرح الأسئلة المتعلقة بمقومات الابداع المعاصر في المجتمعات العربية.

إن تاريخ فن الرسم (التصوير) في العالم العربي ليس إلا صفحة من تاريخ هذه المجتمعات، فهو يندرج في سياق حركة متعددة الأبعاد تمثل كلا هو جزء منه، في حين يشمل هذا الكل أيضا التاريخ الاجتماعي وتاريخ المخيلة، من دون أن ننسى تطور العلاقات المعقدة التي تربط منتجي الأشكال الرمزية بمجتمعاتهم. وخلافا لتاريخ التصوير الحديث في الغرب الذي نشأ في رحم تحولات أفرزته الثورات الاجتماعية والتقنية والثقافية، وابتكارات تستهدف التلازم مع شروط الإبداع الفني، ظهر تصوير اللوحة الزيتية مثلا في العالم العربي في مطلع هذا القرن باعتباره نظام تشخيص في تصميمه ووظيفته الحديثين.

ويقول إبراهيم العلوي في محاضرة ألقاها في عمّان عن الفن والمقاومة: «يرتبط تصوير اللوحة الزيتية بالاختراق الغربي للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في البلدان العربية. وبعبارة أخرى، فإن التوسع الأوروبي في القرن التاسع عشر أثار اهتماما متناميا بفنون الشرق».

ويضيف: ففي التصوير، نجد جذور الموجة الاستشراقية في اللوحات التي طلب بونابرت إلى الفنانين تصويرها لتخليد معاركه الحربية في مصر وبلاد الشام. بعد هذه الحقبة، لعب النزاع بين اليونان وتركيا ثم استعمار الجزائر دوره في إثارة اهتمام مستديم بالشرق لدى الفنانين الأوروبيين، وكان لرحلات بعض الفنانين الكبار إلى العالم الإسلامي دور حاسم في تكريس هذا الاهتمام: دولاكروا في المغرب العام 1832، ثم شاسيريو في الجزائر العام 1846، وفرومنتان في مصر ,,1869. وكان لهذه الأسفار الشرقية أكثر من مغزى: فهي من جهة، كانت جولات بحث في التاريخ والآثار القديمة لاكتشاف جذور الثقافة الغربية، وكانت من جهة ثانية، توقا شبه صوفي إلى مهد الديانات.

ويستطرد: كانت مصر التي سحرتها هذه الصور والاختراعات الجديدة وأثارت فضولها، أول بلد عربي يحاول إتقان تقنياتها ولغتها في إنتاج صوره الثابتة والمتحركة. هكذا ظهر في مصر فنانون تشكيليون ومخرجون سينمائيون ومصورون فوتوغرافيون، من أمثال: محمد صادق بيه الذي خلّف لنا أول صور للحرمين الشريفين العام 1861.

وفي مطلع القرن العشرين ـ يقول ـ: استيقظت مصر على غليان سياسي واجتماعي وثقافي تجلى في الميادين كافة. وفي هذا المناخ الملائم، استطاعت مصر تشييد هياكلها الفنية. وفي العام 1908 أسس الأمير يوسف كمال في القاهرة معهدا للفنون الجميلة، كان الأول من نوعه في المشرق، وكان من أوائل طلاب هذا المعهد رواد الفن المصري الحديث المصورون راغب عياد ويوسف كمال ومحمد ناجي ومحمد سعيد والنحات محمود مختار، وبعد تخرجهم من المعهد تابع معظم هؤلاء الفنانين دراستهم في أوروبا. ولدى عودتهم أسسوا حركة واعية لدورها في ارتقاء مصر الحديثة وأسهموا منذ العام 1920 في (النهضة) التي عبر عنها أفضل تعبير تمثال شهير للنحات محمود مختار الذي يعد أحد أعلام اليقظة الإبداعية في مصر في تلك الحقبة.

هكذا أصبحت القاهرة منذ عشرينات هذا القرن عاصمة الثقافة والفن في العالم العربي. وقد جذبت اكاديميتها للفنون الجميلة عددا كبيرا من أولئك الذين أصبحوا فيما بعد فنانين في سورية ولبنان والعراق. وقد أسهم بعضهم لاحقا في تأسيس معاهد للفنون الجميلة في أوطانهم الأم.

ويؤكد: في السبعينات، أحسّ الفنانون التشكيليون العرب بضرورة توحيد جهودهم لتكون فضاء متميزا للإبداع والبحث الفني العربي، وذلك من خلال اللقاءات الثقافية والمعارض الجماعية، ولا شك في أن أسئلتهم عن دور الإبداع التشكيلي في بناء مستقبل للثقافة العربية، وعن التناقضات والتوترات التي تعيشها بلدانهم نتيجة الظروف التاريخية دفعت هؤلاء الفنانين إلى تنظيم هذه التظاهرات المشتركة.

وانعقد في دمشق العام 1971 المؤتمر الأول للفنون التشكيلية في العالم العربي، معبرا عن هذه الحاجة إلى اللقاء على الصعيد العربي، وتمخض هذا المؤتمر عن إنشاء جمعية عربية للفنانين، وفي العام التالي 1972، ضم مهرجان الواسطي في بغداد مبدعين من مختلف البلدان العربية، وفي السنة ذاتها، شهدت شواطئ «الحمامات» في تونس مؤتمرا عن الأساليب المعاصرة في الفنون التشكيلية العربية، وقد أدت كل هذه الأنشطة إلى انعقاد أول بينالي عربي للفنون التشكيلية في بغداد العام 1974، تلاه البينالي الثاني في الرباط العام 1976، وقد اتاحت هذه المهرجانات التي استقبلت عددا مهما من الفنانين والنقاد العرب من المشرق والمغرب تبادل الخبرات الفردية والجماعية المتراكمة بين المشاركين وعقد صلات وتكوين تيارات تأثير متبادل على صعيدي الأساليب والمفاهيم، ففي ظل تنوع مصادر الإلهام الذي شهدته تلك الحقبة، نمت لدى الفنانين العرب روح الالتزام بالمصير المشترك بما يستتبعه هذا الالتزام من ظهور وعي حقيقي.

وبعد تلك الفترة، حصل بعض الانكماش والتراجع، لكن ذلك لم يمنع الفنانين من التجمع لتنسيق مشاركتهم في تظاهرات فنية عربية مشتركة كمهرجان أصيلة الثقافي ومعرض الكويت السنوي للفنانين العرب وبينالي القاهرة وبينالي الشارقة.

ويقول: في هذا الإطار العام، تطور الإبداع التشكيلي المعاصر، وسيكون من العسير علينا القيام بمراجعة للمقاربات والأساليب كلها التي استخدمها الفنانون منذ الخمسينات، لكن بوسعنا الإشارة إلى الاتجاهات الرئيسية التي حاولت تقديم إجابة جمالية عن إشكالية الفنون التشكيلية، مميزين بين عدة اختيارات تعايشت وتداخلت، منها التجريد والحروفية والتشخيص وغيرها.

ويعلل: وبسبب غياب التشخيص في الفن الإسلامي، غاب فن النحت عن العالم العربي طويلا، لكنه يعود اليوم، وإن ببطء، ليصبح عنصرا فعالا من عناصر الحداثة.

في حمى نهمه للنحت ورؤيته الصارمة للأشكال أو الكائنات، لا يتردد الفنان إسماعيل فتاح في استعمال أية مادة في أعماله: الجص، الخشب، الحجر... وشأنه في ذلك شأن المحلي على طريقة أصحاب الحرف: ينحت وينظف بالفرشاة ثم يصقل مادته ليبرز عبرها ثراءه التشكيلي ويمنحها قوة وإشعاعا جديدين.

أما منى السعودي، فإنها تجعل من منحوتاتها أداة تعبير ونضال شخصية ومرآة لنا الولع والرغبة، في السنوات الأخيرة، اتجهت السعودي إلى الأعمال النصبية المندمجة في نسيج المدينة.

هذا في الوقت الذي يسبر فيه فنانون آخرون حقل الإنشاءات الجديد الذي يعيد مسرح فضاء الأشياء المحملة بالمغزى، ومن هؤلاء بضعة فنانين فلسطينيين ظلوا في وطنهم الأم أو هاجروا، ليجعلوا من «إنشاءاتهم» شهادة على ما ألحقته تقلبات التاريخ من ضرر بحياتهم الخاصة وبحياة مجتمعاتهم: منى حاطوم التي لاتزال واحدة من الفنانين العرب القلائل الذين يهتم بهم المشهد التشكيلي العالمي، تنطلق بأعمالها من مفهوم محدد تمتزج فيه المعطيات الفلسفية والسياسية والجمالية، أما خالد رباح، فإنه يحاول «تحويل العادي المبتذل إلى مجاز»، ثمة أخيرا ناصر السومي الذي يؤلف أعماله من قطع وأشياء متفرقة على هيئة تجميع مجازي.

هكذا، يعبر هؤلاء الفنانون عن شكل آخر من أشكال الوعي عبر طرحهم إشكالية الإبداع بمفردات الحرية: حرية الإبداع تبعا للتجربة الفردية التي هي منطلق كل تجربة إنسانية، بذلك يشق هؤلاء الفنانون مسالك جديدة ويخوضون تجارب جديدة في سعيهم الدائم إلى الكمال





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً