بدأ العصر الصناعي في القرن الثامن عشر مع اختراع الآلة البخارية التي مكنت بريطانيا والدول الصناعية التي لحقت بها من إحداث نقلة نوعية في المدنية الحديثة. ومع مجيء العصر الصناعي انتقل مركز الثقل من الحقل الزراعي إلى المصنع، وانتقلت القيادة من صاحب الأرض إلى صاحب المال الذي كان يوفر أهم عامل لتسيير عجلة المصنع. لم تكن الآلة البخارية سوى تركيبة ضخمة تستخدم الفحم الحجري مصدرا للطاقة، وتحول تلك الطاقة الحرارية إلى طاقة ميكانيكية تحرث الأرض وتسير البواخر وتحرك الماكنات التي كانت تعتمد على الطاقة اليدوية الإنسانية، وذلك بصورة أكثر فعالية وإنتاجية وربحية. كان مجيء الآلة البخارية أحد الأسباب الرئيسية لانتفاء الحاجة الكبيرة إلى السواعد والأيدي وبالتالي انتفاء أي مبرر ومن أي مصدر كان لتسخير الناس مصادر لتحويل طاقاتهم الجسدية من خلال العمل الشاق لطاقات ميكانيكية في الزراعة أو في المهن التقليدية. وكان لابد «للعبودية» أن تنتهي وينتهي معها فصل مأسوي من تاريخ الإنسانية، عندما كان المرء يُشترى كما تُشترى الأرض ويُشترى المحراث.
وفي خلال خمسين عاما من عصر الآلة البخارية تم اختراع القطار الذي حرك عجلة الاقتصاد وأصبح مركز الثقل في الاقتصاد الصناعي. ولم يمضِ نصف قرن إلا والكهرباء تتسلم مركز الثقل لتحرك المدنية باتجاه متصاعد في عصرها الصناعي، ثم لم يمضِ نصف قرن آخر، الا والسيارة تتسلم مركز الثقل الصناعي لتحرك عجلة الحياة باتجاه متصاعد آخر. وصاحب اختراع السيارة وتمكنها من الحياة اليومية لبني الإنسان حاجة تلك السيارة إلى الوقود الذي قُدر له أن يكون أكثره في بلداننا وأن تصبح الحاجة إليه أمرا غير قابل للنقاش. ففي الفترات الصناعية السابقة كان الفحم الحجري هو المصدر الأساس للوقود، وكان ذلك متوافرا لدى القوة العظمى المسيطرة حينها على العالم (بريطانيا). أما النفط، مصدر الوقود للسيارات وغيرها، فهو متوافر لدى شعوب ليس لها شأن في صوغ عالم اليوم. والقوة العظمى المسيطرة على عالمنا اليوم مستعدة لعمل ما تستطيعه لضمان تدفق الوقود مهما كان الثمن لذلك، هذه الفترات الصناعية المتداخلة رسمت الخريطة التاريخية للمدنية المعاصرة، وكان واضحا أن رأس المال التجاري كان ومازال عصب تلك الصناعات القائمة على التطور العلمي والتقني. وعندما يتم إحصاء مصادر القوة لبلد ما فإن الثروات الطبيعية والإمكانات المادية بالإضافة إلى حجم السكان والموقع الجغرافي تحدد قدرة تلك البلاد على التطور أو التخلف.
ولكن جميع الاختراعات التي خلقت العصر الصناعي وطورته لم تصل بآثارها كما وصل الكمبيوتر عندما تسلم زمام عجلة التطور. هذا الجهاز الذي قال عنه أحد كبار الصناعيين إن قوته تتضاعف كل 18 شهرا وينخفض سعره بطريقة مثيلة، هذا الجهاز خلف ثورة صامتة غيرت معالم العالم من جميع الجوانب. في الوقت الذي يشير فيه مطورو الكمبيوتر إلى ان عصره الحقيقي لم يبدأ بعد، وعليه فلا أحد يستطيع أن يتوقع ما سيحصل عندما يأتي هذا العصر، ما هو هذا الأثر ولماذا خلق تلك التغييرات؟
من الإجحاف أن أحاول الاختصار، ولكن المرء يستطيع أن يكتب القليل أو الكثير من دون أن يحدث ضررا بالموضوع، لأن الكمبيوتر مازال صامتا في ثورته.
لو كانت سرعة التطور في صناعة السيارات تعادل سرعة التطور في صناعة الكمبيوتر لوصل سعر السيارة المتداولة لدى أكثر الناس إلى خمسة دولارات. إذا، فإن أحد أسباب الصمت السرعة الخاطفة التي يحدث فيها التطور التكنولوجي. الكمبيوتر كذلك نقل الميدان من المصنع إلى الدرج الذي يوضع عليه الجهاز، بل انه نقل الميدان إلى الركبتين اللتين تحملان ذلك الجهاز، وقد بدأ أخيرا تسويق بعض الأجهزة الكمبيوترية التي تحمل على الساعد تماما كما يلبس المرء الساعة. إن هذا الانتقال الميداني يعني أن أكثرية الناس باستطاعتها أن تمتهن وتستفيد من هذه التكنولوجيا. والأكثر من ذلك، فإنه لم يبقَ علم أو تخصص أو مهنة تستغني عن الكمبيوتر. والذي يستغني اليوم لن يستطيع الاستغناء في المستقبل القريب. وأصبحت مهارة الكمبيوتر أساسية وبقدر أكبر من أهمية مهارة قيادة السيارة، مع فارق جوهري، وهي ان مهارة الكمبيوتر يتمكن أي امرئ من اكتسابها، لأنها جماهيرية بمعنى الكلمة. وكل امرئ ما عليه إلا أن يكتسب جزءا من المهارة وليس كل المهارات الكمبيوترية لكي يسهل حياته.
الكمبيوتر أيضا يختلف عن السيارة التي تحصل على وقود وتحول الوقود إلى خدمة المواصلات، بمعنى ان الداخل (Input) يختلف عن الخارج (Output). أما الكمبيوتر فيأخذ معلومات ويخرج معلومات. فالمعلومات هي ذاتها تكون الداخل والخارج، مع اختلاف - طبعا - في محتوى تلك المعلومات. فالمعلومات اساسا ما هي إلا مجموعة من الرموز غير المفهومة، والتي يستطيع الكمبيوتر التعامل معها بفاعلية تعادل ملايين الملايين من قدرة أي مخلوق مهما كان داهية عصره في الحساب والرياضيات. لأن الكمبيوتر - في أساسه - ما هو إلا خزان لتلك الرموز والأرقام، وعندما يتم تحويل تلك الرموز إلى أمور مفهومة تصبح معلومات. وإذا كانت المعلومات أساسا من أسس القوة فإن هذه المعلومات أصبحت بفضل الكمبيوتر والإنترنت في متناول الجميع.
وإذا كان الحكام المستبدون يعتمدون في حكمهم على إبعاد المعلومات عن شعوبهم، فإن الأمر أصبح صعبا وقريبا سيصبح مستحيلا. وإذا كان الكمبيوتر أعطى مصدر القوة الأكبر لغير الحكام ولغير الرأسماليين فإن العصر المقبل لن يكون عصرا محتكرا من قبل القلة في المجتمع. وإذا كانت المعلومات هي الغذاء وهي الناتج عن ذلك الكمبيوتر، فإن العلم والمعرفة وحب الشعوب للعالم والمعرفة أصبحت الثروة الحقيقة والأهم من الثروات الأخرى، وهذه الثروة في المعلومات هي ثورة في الوقت ذاته. وهذه الثورة لم تكتمل بعد، لأن الثروات مازالت قيد الاكتشاف. والكمبيوتر الذي غزا خطوط الهاتف وخلق عصر الإنترنت بدأ يزحف على محطات الأقمار الصناعية والتلفزيون وعندما يندمج الهاتف بالتلفزيون بالمكمبيوتر في جهاز واحد ويدخل المنزل ليصبح أحد الأجزاء الرئيسية في كل منزل، فإن ثورة الكمبيوتر الحقيقية تكون قد بدأت. وما علينا إلا أن ننتظر عدة سنوات وربما أشهر، لأن سرعة التطور أدهشت المطورين ذاتهم قبل المستخدمين
إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"العدد 207 - الإثنين 31 مارس 2003م الموافق 27 محرم 1424هـ
يسلمو على جهودكم
يسلمووووو على الجهود كتيييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييير مفيدة