تستطيع أن تسمع على سقف مبنى مكتب قناة «الجزيرة» في بغداد صوت الصاروخ الآتي إلى المدينة الذي عادة ما يخترق سحب الدخان جنوب نهر دجلة محدثا هسهسة بجانب مكتب «الجزيرة»، ومختفيا خلف جسر الأحرار القديم. في تلك اللحظات سألني مذيع القناة على الهواء مباشرة من الدوحة: «هل تعتقد أن ما يجري من دمار هو حقيقة بواسطة الأميركيين؟» أجبت: في الواقع نعم، واليوم هو أحد تلك الأيام العصيبة التي نشهدها هنا من الدمار.
وبعد دقائق معدودة من نهاية المقابلة، عاودت الحديث مع مراسلي «الجزيرة» في فيلتهم ذات الواجهة المائية ـ منزل قديم يعود بناؤه لفترة الاستعمار، ذو أعمدة خشبية وبلاط أبيض وأزرق ـ فجأة جاء أزيز الطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. اتجهت انظارنا بعضنا البعض والى الفريق الإعلامي للقناة التلفزيونية «العربية» .
قبل ثمانية عشر شهرا فقط ماضية، أطلق الأميركيون صاروخ كروز على مكتب قناة «الجزيرة» في كابول، وهو هجوم لم تعتذر فيه الولايات المتحدة أو تبرره حتى الآن. وهاجم رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير المحطة التلفزيونية الأسبوع الماضي لعرضها شريط فيديو أظهر جنديين بريطانيين مقتولين في البصرة. وقبل أيام قليلة فقط، انضم إلى مكتب القناة في بغداد المشرف السابق لمكتبها في كابول، تيسير علوني، الذي كان محظوظا حينما نجا من صاروخ كروز.
واليوم في بغداد كان هناك انفجار مرعب، اهتزت على إثره الفيلا، بينما صاح مراسل القناة الذي كان في الخدمة في تلك اللحظة «إلى السقف»، لتغطية ما يجري في بغداد، ووثب بقية الفريق إلى السلالم ليروا ما حدث. في الواقع أحدث الانفجار عاصفة من دخان داكن مائج في الهواء على الجانب الآخر من الجسر القريب، بينما تخلله وابل من قذائف المدفعية المضادة للصواريخ. إنه يوم آخر في تاريخ بغداد الحديث.
كانت الليلة «هادئة» نسبيا، ولكن كلمة «هادئة» يجب أن تستخدم بحذر، لأنه ليست هناك ليالٍ هادئة. توجد فقط أمسيات طويلة تتخللها صافرات الإنذار العرضية والانفجارات الغامضة التي في أحيان كثيرة لا يكتشف مصدرها. قبل الفجر، تُذكّر دمدمة غارات طائرات بي - 52 الطويلة والمدوية في الصحراء العراقيين أن الأميركيين قد اقتربوا كثيرا من بغداد. حتى بعد الفجر، لم تنتهِ أمس الأول العمليات الهجومية للقوات الجوية الأميركية وسلاح الجو الملكي البريطاني.
حقا، لقد سُوِّي مركز الاتصالات المجاور لمركز صدام الصحي بصاروخ ولم يبقَ له أثر. وكذلك دُمّر مبنى هواتف كبير على الضفة الغربية لنهر دجلة. أحد المراسلين، يوناني الجنسية، ذهب إلى مكان الانفجار ليصله في وقت وجيز، فارتطم صاروخ آخر في ركام الصاروخ الأول محدثا جرحا عميقا في رأس سائقه. وكالعادة، أدى الصاروخ أيضا إلى دمار وخراب وسط منازل المدنيين، والمحلات، ودكاكين أحذية، ومحلات لخدمات الكمبيوتر ومحلات أبوالحارث للسندويشات. واجهة أحد البيوت تقرأ الكتابة عليها: «منزل عبدالرحمن مُخلص الخالدي رقم 17»، ويبدو المنزل مدمرا بالكامل، ولكن إذا عاد مُخلص من عمله سيجد غرفتين فقط مازالتا قائمتين.
تعتبر بغداد أيضا الآن مدينة للشائعات التي أحيانا يتم تأكيدها، وفي أحيان كثيرة تظل غامضة على نحو مُعذِّب. فقد أعلنت القوات العراقية عن وصول كثير من المتطوعين العرب، وهم ينشدون «الجنة»، جاءوا من جميع دول الشرق الأوسط للقتال إلى جانب العراق. كنت مشككا في هذا التصريح قبل أن ألتقي يوم السبت الماضي ثلاثة شبان جادين، يرتدي كل منهم «جاكيت جلدي وبنطال كاكي وبوريه أسود»، أخبروني بجد وبكل إخلاص، انهم يرغبون في القتال وعند الضرورة الموت في العراق. أحدهما فلسطيني، واثنان سوريان، أوضح لي الأول انه مشبع ومقتنع بالانتماء والوطنية «لقضية العرب العامة» وقبل كل ذلك الإيمان بالله.
ثم أعلنت القوات الأميركية أن طائرتين أميركيتين إضافيتين قد أسقطتا. مرة أخرى كان الشك هو التجاوب الأولي مع الخبر ـ كما هو الحال مع التصريحات الكثيرة بواسطة القوات الانجلو ـ أميركية.
ثم جاء مسئول حزب البعث الذي كنت قد التقيته عندما عاودت الطائرات الأميركية قذفها الليلة الماضية على بغداد. أخبرني قائلا: «لقد أسقطنا طائرة من سماء نهر وشاهدت الطيار يهبط بالبارشوت». إنه من الإمارات، إنه عربي.
وعندما هبط على الأرض، وسمع الناس انه عربي، أخذوا يضربونه. فأخبرهم أن له زميلة أميركية معه في قيادة الطائرة وقد هبطت أيضا. وتم القبض عليها أخيرا.
هل هذه حقيقة أو كذب؟ لماذا على وجه هذه المعمورة يوجد عرب يطيرون فوق سماء العراق على متن طائرة أميركية؟ أم ان الطيار، إذا كانت للقصة أية علاقة بالحقيقة، عربي ـ أميركي في قوات الجو الأميركية؟
كذلك هناك حكايات أخرى عن طيارين كويتيين تم القبض عليهم. أما آخر شائعة فهي عن حوالي 500 أسير حرب أميركيين، غالبيتهم تم أسرهم في منطقة النجف. وقال مسئول حزب البعث: «سيكونون جزءا من تسوية سياسية إذا كانت هناك أية تسوية». خمسمئة.. اسأل نفسي... لا أصدق؟ ولكن لم أصدق أيضا حتى الآن أكثر من عشرة أيام منذ بداية الحرب، ومازال الأميركيون والبريطانيون يقاتلون من أجل الاستيلاء على البصرة والناصرية وكربلاء والنجف فقط.
خدمة الاندبندنت خاص بـ «الوسط
العدد 207 - الإثنين 31 مارس 2003م الموافق 27 محرم 1424هـ