هل هناك من مجال لاحتواء تداعيات الحرب العدوانية على العراق واعادة ضبط الأزمة المتفجرة سياسيا؟بيان مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة طرح فكرة إعادة الأزمة إلى مجلس الأمن انطلاقا من مبدأ وقف الحرب. والمجموعة العربية في الأمم المتحدة بدأت تحركا مع الدول الأعضاء المعارضة للحرب لتجديد فكرة إعادة الأزمة إلى اطارها الدولي. فرنسا بدورها طرحت الفكرة نفسها وطالبت الولايات المتحدة بالعودة الى الأمم المتحدة والاتفاق على صوغ حل دولي للأزمة.
روسيا اعتبرت أن الحرب غير شرعية ومخالفة للقانون الدولي، وطالبت واشنطن باحترام اتفاقات جنيف وغيرها من المواثيق الدولية باعتبارها أساسا مرجعيا لحل الأزمات. وذهبت موسكو الى أبعد من ذلك حين ربطت توقيعها اتفاقات الحد من التسلح النووي بانهاء الحرب على العراق واعتماد الشرعية الدولية مرجعا وحيدا لمعالجة الأزمة. الصين لم تكن بعيدة بدورها عن الموقفين الروسي والفرنسي.
ألمانيا أيضا ذهبت في سياق تدويل الأزمة العراقية، واعتبرت أن المشروع الأميركي يخالف القانون الدولي ويطيح بسلسلة قواعد اتفقت عليها الأمم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كل الدول التي تحترم نفسها وتمتلك الحد الأدنى من السيادة على نفسها ذهبت المذهب نفسه (من نيوزيلندا في أقصى الشرق إلى كندا الجارة الكبيرة الشمالية للولايات المتحدة)، وكلها أجمعت إلى حد كبير على الموقف نفسه وهو تدويل الأزمة ووضع العراق تحت اشراف قوات تابعة للامم المتحدة. حتى أن بعض الدول نبهت الى خطورة الكلام الأميركي عن اعادة اعمار العراق بعد تدميره معتبرة أن تلك المهمة دولية وليست أميركية. فالحرب لا تعطي شرعية للسياسة الأميركية وكذلك لا يمكن أن يتحول العدوان إلى سابقة في العلاقات الدولية. وإذا حصل الأمر فمعنى ذلك أن دور الأمم المتحدة تهمش وتحولت الهيئة الدولية الى منظمة اغاثة انسانية بينما هي أصلا تعتبر مرجعا لمعالجة نقاط الاختلاف التي تقع أحيانا بين الدول... ولا يجوز معالجتها خارج القوانين المتعارف عليها وإلا خرجت الأمم عن طورها وعادت إلى «قانون الغاب» حين يفرض القوي شروطه على الضعيف من دون مراقبة أو محاسبة.
اذا الدول العربية عندها فرصة مثالية اقليميا ودوليا لإعادة انتاج سياسة عاقلة تتمتع بتأييد شعبي ولها صفة قانونية وتلاقي القبول عند دول تعتبر على مجموعها نقطة توازن تستطيع استنادا اليها الوقوف على أرض صلبة لمواجهة الوحش الأميركي الهائج والهاجم على المنطقة العربية من خلال محاولات سيطرته على أرض الرافدين.
معركة التدويل قد لا تكون كلها لمصلحة الدول العربية، وربما تنتقص الشيء الكثير من السيادة العراقية إلا أنها في سياق التحولات الحاضرة تعتبر خطوة ايجابية تخفف من المأساة الانسانية التي يتعرض لها الشعب العراقي وربما تساعد في انقاذ ما يمكن انقاذه من بقايا دولة مزقتها الحروب والأطماع والانفلات الداخلي. ومعركة التدويل تعطي فرصة في حال أحسن استخدامها لإعادة انتاج الحد الأدنى العربي وربما بالتعاون مع الدول الرافضة للحرب يمكن الدفع مستقبلا إلى تعريب الأزمة العراقية من خلال مشاركة قوات عربية في اطار مشروع «القبعات الزرق» الذي سبق وطرحه الرئيس الفرنسي جاك شيراك بديلا عن مشروع الحرب و«أمركة» القضية العراقية.
مشروع «القبعات الزرق» الذي رفضته واشنطن واعتبرته عقبة في وجه خطة حربها التي رسمت خيوطها وخطوطها منذ فترة طويلة لا بد من إعادة انعاشه مجددا من خلال تفاهم عربي - أوروبي - دولي تلعب فرنسا وألمانيا وروسيا والصين دور الرافعة السياسية - الاقتصادية لعناصره القانونية والشرعية.
البيان العربي الصادر عن مجلس وزراء الخارجية العرب جيد في إطاره العام إلا أن ما ينقصه، كالعادة، آلية العمل وخطة التنفيذ وهذا لا يتم إلا بالاستناد إلى مواقع دولية تستطيع مواجهة التحدي الأميركي (الأمركة) من خلال ربط مصالح الدول المعنية بالموضوع بالمصالح العربية - الدولية المشتركة.
الدول العربية قوة، وهي أقوى إذا أحسنت التنسيق والتنظيم وإعادة الاعتبار لنفسها في عالم لا يحترم إلا الذي يحترم نفسه... وهذا لا يتم إلا عبر صوغ خطاب عربي يبتعد قليلا عن العواطف ويعتمد لغة المصالح وهي لغة مفهومة لأنها تنسج الحقوق المشروعة بالسياسة وتربط السياسة بالمصالح.
فالعالم هو مجموعة مصالح وتمرد الدول الكبرى على هيمنة الولايات المتحدة ينطلق من فكرة المصالح وحمايتها من سيطرة القطب الواحد. وهذه النقطة يجب أن تكون المدخل العربي للعلاقات الدولية ومنها يجب صوغ منظومة أفكار عربية معاصرة تخاطب عقول الدول الكبرى انطلاقا من فكرة وعي المصالح وضرورة احترامها وضبطها في سياق دولي متوازن.
تجديد مشروع «القبعات الزرق» الذي سبق وطرحته فرنسا قبل اندلاع الحرب بأسابيع مهمة عربية ويجب على مجموع الدول العربية التي اصدرت بيانها أن تعيد قراءة نصوصه في ضوء الخطة الفرنسية - الأوروبية المدعومة من أقوى دولتين روسيا (عسكريا) والصين (بشريا). وهذا يعطي البيان العربي بعده الدولي الذي يرتب المصالح وفق تصورات معاصرة تعطي الدول الكبرى حصصها من دون أن تخسر الدول العربية مكانتها. فهي يمكن أن تتقدم في مسار التحولات الدولية أو تتراجع لتنعزل على نفسها ويتم اسقاطها دولة بعد دولة.
تعريب الأزمة العراقية مسألة صعبة في ظروفنا الحاضرة و«الأمركة» كارثة سياسية - اقتصادية على الدول العربية، والحل الواقعي هو «التدويل» شرط أن تسهم وتشترك المجموعة العربية في صوغ نصوصه وأهدافه. فهل ننجح في احتواء أزمة متفجرة أم تبقى الدول العربية مشدودة إلى شعارات ستتحول في حال دُمِّر العراق إلى مجرد أوهام؟ هذا سؤال ننتظر جوابه من المجموعة العربية في الأمم المتحدة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 201 - الثلثاء 25 مارس 2003م الموافق 21 محرم 1424هـ