لقد كانت الحرب العالمية الثانية شيئا فاحشا. لقد انتهت الحرب العام 1945 ومع ذلك يعتقد المرء الذي يستمع إلى بلير وبوش اللذين بدآ شن الحرب في الشرق الاوسط بان هتلر مازال حيّا في احد مخابئ برلين، وسيعتقد المرء ايضا ان قادتنا ورجال الصحافة والدكتاتوريين العرب لم يفهموا ذلك. واذا ما استمعت إلى بوش وبلير تبدو لك الامور وكأن الطائرات الالمانية مازالت تقلع من كاب جريس استعدادا لقصف لندن بعد سنوات من المهادنة مع المانيا النازية. ان صدام هو طبعا هتلر. ولكن سلاحنا الجوي هو الذي يضرب العراق انطلاقا من الكويت وقطر والسعودية وتركيا ومجموعة من حاملات الطائرات ليدكّ ليس لندن بل بغداد.
ما الذي يدفع بقادتنا الغربيين الاقزام إلى الاتجار بتضحياتنا الجسيمة في الحرب العالمية الثانية بدخولهم حربا قذرة ضد العراق، عاملين بذلك على رفع الدكتاتورية التافهة لصدام حسين إلى مصافّ ملحمة المأساة التاريخية للحرب التي نشبت بين عامي 1939 و1945؟
لقد حاول جورج بوش الابن ان يلعب دور تشرشل العام الماضي زاعما انه تشرشل الذي وقف ضد اية جهة حاولت التهدئة او الاعتراض على شن حرب ضد صدام.
لقد سار الامر وكأنه تبرير مريض اثناء هذه الحملة الخادعة لشن الحرب.
وقال بلير - الذي لم ير حربا في حياته - ان التاريخ قدّم لنا دروسا مهمة بالنسبة إلى هذه الازمة! ان جهود نيفيل تشامبرلين لمهادنة هتلر كانت عمل رجل جيد اتخذ القرار الخاطئ. اما جاك شيراك الذي يدافع عن اتهام بلاده بالجبن فقد اعاد إلى الذهن انه عندما ارادت فرنسا الاقدام على عمل عسكري في البلقان وجدت نفسها وحيدة واعادت إلى الذهن مهادنة الغرب لهتلر. وتعبيرا عن الاستياء من الموقف الفرنسي، الذي كان يهدد باستخدام الفيتو في مجلس الامن، نشرت «نيويورك بوست» صورة لمقابر الجنود الاميركيين في نورماندي.
وتقول الصحيفة ان الجنود الاميركيين قتلوا دفاعا عن فرنسا، ولكن الفرنسيين نسوا ذلك. فأين الفرنسيون الآن في الوقت الذي ينزل فيه الاميركيون جنودهم إلى الجبهة لقتال هتلر العصر (صدام حسين)؟
وحتى حفيد ونستون تشرشل كتب في مجلة «وول ستريت جورنال» قائلا إن دول اوروبا الشرقية التي ايدت الموقف الاميركي لم تنس الجميل الذي قامت به الولايات المتحدة عندما حررت تلك الدول من الحكم النازي. ان تشرشل لم يقف وحيدا في الحرب العالمية الثانية.
وفي مقابلة مع «طوني بِن» ابلغ «هتلر بغداد» ضيفه البريطاني بانه اذا تعرض العراقيون للعدوان والاذلال فانهم سيقاتلون بشجاعة كما فعل الشعب البريطاني في الحرب العالمية الثانية عندما دافع عن بلاده بطريقته الخاصة. اما وزير خارجيته طارق عزيز فقد ابلغ صحيفة «كوريير ديلا سيرا» الايطالية فيما بعد «ان الحقيقة هي ان بوش يعمل على تفكيك الامم المتحدة كما اعلن الرايخ الثالث في الثلاثينات من القرن الماضي بطلان عصبة الأمم».
وقد أبلغت «باربارا اميل» زوجة كونراد بلاك صاحب صحيفة «ديلي تلغراف» قراء مجلة «ماكليان» الكندية بأن تدمير نظام صدام سيكون في الحقيقة تحريرا لشعب العراق، وعندما يحدث ذلك سيتم الترحيب بالذين قاموا بتحرير هذا الشعب بالفرح غير العادي نفسه الذي لاقاه الحلفاء العام 1945 في فرنسا (او العام 1944 لانه تم تحرير فرنسا في هذا العام).
ومهما كان الامر يجب ألا ننسى ان احدى الدول التي تريد استخدام الفيتو في مجلس الأمن (روسيا) قد فقدت عشرين مليون ولربما ثلاثين مليون شخص في حربها ضد النازية، وحتى هيئة الاذاعة البريطانية تتحدث عن الدول الحليفة التي تقود الحرب ضد العراق.
لقد تلقيت رسالة من احد الاشخاص عن تلك الفترة الرهيبة في التاريخ، وكانت الرسالة من جندي بريطاني في بورما اصيب بالرعب عندما شاهد الاصابات التي لحقت بطفلة في غارة شنها سلاح الجو الملكي البريطاني، ومقتل ثلاثين جنديا بريطانيا بالخطأ في غارة جوية اميركية. كتب هذا الجندي يقول إنه لا يفهم ما الذي يقوم به بلير وجاك سترو.
إن السياسة الاميركية بالنسبة إلى النزاع الاسرائيلي الفلسطيني سياسة شريرة.
والاجتماع الذي عقد بين بوش وبلير ورئيس وزراء اسبانيا ازنار في جزر الازور هو رمز لوصول الحرب العالمية الثانية إلى ذروتها. ان الثلاثة الصغار - رئيسا وزراء لم يعودا يمثلان شعبيهما ورئيس اميركي لربما لم يتم انتخابه بشكل نزيه التقوا في جزيرة مجهولة لتقرير مستقبل الشرق الاوسط.
تبّا لهؤلاء الاقزام الثلاثة وللأكاذيب التي يطلقونها! من منا يتذكر الآن عندما اعلنت هيئة الاذاعة البريطانية اول اخبار عن عمليات الانزال في نورماندي العام 1944 بهذه الكلمات: «جيوش الامم المتحدة هبطت على سواحل فرنسا».
لقد كان هذا هو الاسم الذي اطلق عليها حينئذ. لذلك دعنا نمسح التسجيل. دعنا ندع الحشيش ينمو فوق المقابر الجماعية لستين مليون شخص من ضحايا الحرب، ولكن دعنا بحق السماء نترك هؤلاء الموتى يرقدون بسلام.
خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط
العدد 199 - الأحد 23 مارس 2003م الموافق 19 محرم 1424هـ