لاشك في أن من حق الشعب التعبير عن رأيه بالوسائل السلمية والمقبولة والتي تؤدي إلى وصول الرسالة وليس تشويهها.
وما حدث خلال الأيام الماضية من أعمال عنف لا يمكن القبول به وقد أحسن قادة الجمعيات السياسية عندما أدانوا تلك الأعمال وابتعدوا عنها.
التعبير عن الرأي يمكن أن يأخذ أساليب حضارية أخرى. مثلا، يمكن لرؤساء الجمعيات السياسية والرموز والشخصيات الاجتماع في وفد وكتابة عريضة. وتسليمها الى السفيرين البريطاني والأميركي. ويمكن للمتظاهرين إيصال رسالتهم بطريقة مشابهة لما يعمله آخرون في بلدان أخرى عندما تتقدم المسيرات فرق مسرحية تمثل الرعب وشبح الحرب وتصور ما سيحدث من خراب وقتل وآلام... وهذه الفرق التمثيلية هي من أفضل ما تقدمه الإبداعات الإنسانية التي توصل الرسالة بصورة أكثر قوة من العنف.
ولو كان العنف ينفع لأصبح سنة الحياة، ولكن لأنه استثناء فإن الانسان يبتعد عنه قدر الإمكان.
الجمعيات السياسية يمكنها أن تعقد مؤتمرا صحافيا وان توصل رأيها ويمكن للجماهير أن تعتصم سلميا أمام السفارات من دون رمي حجارة ومن دون تخريب أية ممتلكات عامة أو خاصة. فما ذنب صاحب الشركة التي تنشر دعايات تجارية تكسر لوائحها الضوئية، وما ذنب أصحاب السيارات عندما يمرون في شارع معين فيجدون أنفسهم محاطين بحرائق هنا وهناك، وماذا سيحصل لو أن سيارة مملوءة بالركاب مرت (اضطرارا) أمام حاوية قمامة اشتعلت فيها النار بعد ان وضعت بداخلها اسطوانة غاز ستنفجر في أية لحظة؟ ماذا لو انفجرت في اللحظة التي مرت فيها السيارة؟
هذا المشهد حضرته بنفسي ولم يخبرني أحد عنه. لقد كنت واقفا بالقرب من دوار رأس الرمان (أمام جامع رأس الرمان) وكانت إحدى الحاويات المحترقة موضوعة على الشارع الدائري (حول الدوار) واسطوانة الغاز الموضوعة بداخلها كانت بانتظار الانفجار. وكانت في هذه الأثناء الحوادث تتطور، فقد داهمت ثلاث سيارات جيب تابعة لقوات مكافحة الشغب الشباب الذين أشعلوا النار في الدوار، واستخدموا ضدهم الغازات المسيلة للدموع بالإضافة الى قليل من الرصاص المطاطي. وكانت السيارات الثلاث بالقرب من اسطوانة الغاز التي مازالت لم تنفجر. بعد ذلك تحركت السيارات الثلاث، وبدأت السيارات التي تورطت بالمرور في تلك الشوارع، وبدأت تمر بالقرب من شعلة النار وهم لا يدرون بأن اسطوانة غاز ستنفجر. ومرت على الأقل عشرون سيارة، واحدة بعد الأخرى، بما في ذلك باص كبير، ولكن الله ستر والاسطوانة لم تنفجر أثناء مرور هذه السيارات. بعد ذلك جاءت مجموعة من صغار السن (أحدهم لا يتجاوز عمره 13 أو 14 سنة) وحجزوا الشوارع ومنعوا السيارات الأخرى من المرور لعلمهم بوجود اسطوانة الغاز.
بعد قرابة ثلث ساعة بدأت اسطوانة الغاز في تسريب كميات من الغاز المخزون بداخلها، وحدث انفجار صغير وارتفعت ألسنة اللهب. ثم بعد ذلك بعشر دقائق انفجرت الاسطوانة مرة أخرى محدثة دويا كبيرا وارتفعت ألسنة اللهب بشكل أكبر. في هذه الأثناء كانت سيارات شرطة تمر بالاتجاه المعاكس محاولة اعتقال بعض الشباب وصغار السن، ولكن الشرطة وجدوا الوضع حرجا جدا فتركوا سيارتهم واتجهوا مشيا إلى حيث اجتمعت سيارات لقوات الأمن في جهة بعيدة نسبيا عن الحدث. وبعد ذلك تسلم بعض الصغار السيارة وحرقوها على بعد أمتار من المكان الذي انفجرت فيه الاسطوانة.
كنت وعدد من المواطنين نراقب كل هذه التطورات من جانب واحد في مسيرة كان المفترض أنها خرجت للتنديد بالحرب الأميركية على العراق ولكنها انحرفت كثيرا وتحولت إلى صدامات وتخريب وإطلاق قنابل مسيلة للدموع ورصاص مطاطي واعتقالات ومنع تجوال.
كيف تتحول مسيرات سلمية الى عنف، ومن المسئول، ومن المستفيد؟
هذه الأسئلة ليست عابرة وليست نظرية وإنما تتعلق بأمر مقلق جدا. فالحرب العدوانية على العراق لا يمكن إيقافها عبر إشعال النار في شوارع البحرين؟ وهذا ليس له تأثير على القرار الأميركي أو البريطاني.
والخشية ان تتحول القضية من تعبير عن الرفض وإعلان السخط على أميركا وبريطانيا الى صدامات بين قوات الأمن وأبناء الشعب، وبالتالي احتمال سقوط قتلى، وعندما يسقط قتلى فإن الوضع يتحول من أمر له علاقة بتنديد أميركا الى أمر بين الحكومة والشعب. وهذا يعني اننا ندور في حلقات مفرغة، نبدأ بشيء وننتهي بشيء آخر.
من الذي يقود الساحة الشبابية وبالتالي يستطيع السيطرة عليها؟
هذا السؤال لم يكن مطروحا قبل عدة سنوات، لأنه لم تكن هناك مسيرات سلمية يسمح بها لكي تتحول الى مسيرات عنف. وكان الصدام أمرا طبيعيا في وجود قمع وقانون أمن دولة. أما الآن فالقانون يسمح بخروج المسيرات السلمية، فلماذا نخرب هذا الأمر؟ لماذا نسمح للمتحمسين بإخراج الأمور عن إطارها وتحويل مسيرات التنديد بالحرب الأميركية الى مصادمات وحرق سيارات وتفجير اسطوانات؟ هل يعلم من يقوم بهذه الأمور بخطورة الأمر؟ هل تتمكن الجمعيات السياسية والرموز الدينية والاجتماعية من اتخاذ خطوة شجاعة للإمساك بالشارع؟ أم إننا ننتظر تحويل الوضع الى قانون أمن دولة؟
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 199 - الأحد 23 مارس 2003م الموافق 19 محرم 1424هـ