العدد 199 - الأحد 23 مارس 2003م الموافق 19 محرم 1424هـ

التأصيل للحرية... قراءة معاصرة

القطيف - زكريا الراشد 

تحديث: 12 مايو 2017

النهضة الثقافية في العالم العربي تبدأ بشكل حقيقي عندما نحقق مبدأ رفض الإكراه وتكميم الأفواه، ويعني هذا تحقيق مبدأ الحرية في جوانبها المتعددة، بدءا من حرية المعتقد إلى الممارسة السياسية، فالحرية كمبدأ لا يمكن تجزئتها، لأنها تتعلق بجميع شئون الإنسان، فكما لا يمكن تجزئة الشخصية الإنسانية والتعامل معها من خلال بعدٍ واحد أو أكثر، كذلك الحرية التي تشكل مطلبا ملحا للمواطن العربي الذي يرى العالم من حوله يتغير نحو الأفضل، ونحو إشراك الإنسان في صنع مستقبله وتحديد مصيره واختيار قياداته السياسية وغيرهم، بينما هو لايزال يُعد في نظر صناع القرار لم يصل إلى مستوى الرشد كي يمارس حريته ويحدد اختياراته، وللأسف يطلع علينا بين حين وآخر بعض المثقفين الذين يرون أن ممارسة الديمقراطية في الوطن العربي تحتاج إلى المزيد من الوقت، ومن حقنا أن نتساءل: متى يأتي الوقت في نظر هؤلاء المثقفين؟ ولماذا المجتمعات التي حولنا تحققت لديها شروط ممارسة الديمقراطية والحرية بينما نحن لم نزل نراوح مكاننا؟

وكي نكون أكثر إيجابية في الرد على هذه الأسئلة لابد أولا من التأصيل لأبعاد الحرية ومن ثم الانطلاق لبحث إمكان وصول مجتمعنا العربي إلى ممارسة الحرية ولاسيما منطقة الخليج العربي التي ما زالت نسمات الحرية تهب عليها خجولة.

كما قلنا الحرية مفهوم عام ولا يمكن تجزئتها لا في الفكر ولا في التطبيق العملي والسلوكي، وحتى نؤسس لوعي اجتماعي صحيح بعيد عن التناحر والرفض المطلق يحتاج المثقفون والمفكرون العرب إلى المساهمة في الحديث عن الحرية الفكرية ضمن ثلاث دوائر، تشكل في مجموعها فضاءات حرية للفكر العربي والإسلامي المعاصر، وهي كما يأتي:

الدائرة الأولى: حرية الفكر «المخالف» داخل المنظومة المعرفية الإسلامية.

الدائرة الثانية: حرية الاختلاف داخل المنظومة المعرفية الإسلامية.

الدائرة الثالثة: حرية الفكر المختلف داخل المذهب الواحد.

الإسلام بوصفه دينا يطلب من معتنقيه الإيمان بأصوله وفروعه بالدليل والبرهان ولا يرتضي التقليد في الجوانب الاعتقادية ومن الطبيعي أن يرفع شعارا يبين من خلاله مبدأ الحرية الفكرية في جميع جوانبه، ويضفي عليه صفة العقلانية وهذا المبدأ يعبر عنه بقوله تعالى «لا إكــراه فـي الديــن» (البقرة: 256)، وهذا المبدأ القرآني يؤصل للأمة الحرية في جميع أبعادها، لأن الآية لم تنفِ إكراها محددا، كإكراه الناس على فكر، أو دين، أو عقيدة، أو مذهب سياسي، أو توجه اقتصادي، بل الآية جاءت صريحة كما يقول النحويون في نفي جنس الإكراه، فـ «لا» هنا نافية للجنس، وهو يدل على نفي عموم الإكراه، ويستتبع ذلك التأصيل للحرية في جميع أبعادها من حرية المعتقد والفكر، والسياسة، والمذهب الفقهي، والاقتصادي، وغير ذلك من جوانب الحرية، وهذه الآية الكريمة عندما ننظر إليها من الزاوية التاريخية وننظر إلى المحيط الذي نزلت فيه، ندرك أنها جاءت لتضمن الحرية للجميع، وإذ كان المجتمع الذي نزلت فيه الآية يحتوي جميع الديانات السماوية: الإسلام، المسيحية، اليهودية، وبعض المشركين، فهي قد أمنت الحرية الفكرية لجميع هؤلاء، مع أن لفظ «الدين» الوارد في الآية يكفي للدلالة على العموم.

وقد حفلت التجربة الرسالية لنبينا محمد (ص) بالكثير من المواقف العظيمة التي تنم عن عظمة الرسالة والرسول، ففي المدينة عندما أراد الرسول (ص) أن يجلي بني النضير عن المدينة، كان من ضمنهم أبناء للقبيلة التي أسلمت وجاهدت «الأوس»، ولكن الأبناء بقوا على دين اليهودية وأصروا على الذهاب مع اليهود، فأجبر الأوس أبناءهم على الإسلام، فنزلت هذه الآية الكريمة، فهل من الصحيح أن نكره الآخرين على قبول تفسيراتنا للدين أو لقضية محددة في الإسلام، فأصل الإسلام لا إكراه على قبوله، فكيف بتفسير النصوص أو الأحكام، هنا تتضح السعة والشمولية التي يبني عليها الإسلام مفهوم وبـعد الحرية، وتعدد الآراء والمناهج الفكرية، والقراءات، وقد تكفل الإسلام لجميع الديانات الحرية الفكرية بل وحرية ممارسة أحكام دينهم.

هذه الحرية التي رسم خطوطها الدين، تسعى إلى بناء مجتمع يشعر فيه الجميع مع اختلاف أديانهم، ومعتقداتهم، وأفكارهم، بالأمن والاستقرار وتتحدد أهدافهم العامة في خدمة المجتمع الذي يعيشون فيه، ولكن هذه الصورة والحرية التي أوضحتها النصوص ومارسها المجتمع الإسلامي في عصوره المتقدمة، أصيبت بالكثير من التشوه والخلل، إذ غابت عن أذهان بعض المؤسسات الدعوية هذه القيم، فأصبحت القاعدة عندهم الإكراه والقهر في الأفكار والسلوكيات، وأصبح الآخر دائما يظهر في صورة العدو الذي يضمر كيدا ويتآمر على الأمة، وانعدمت المشتركات التي تجمع بيننا، وتلاشى من الأفق إمكان التعايش، وطبيعي أن مجتمعا كهذا لا يمكنه التقدم الاقتصادي أو السياسي أو التقني، لأن الاختلاف في الفكر هو حال طبيعية بين البشر، وهو متأصل في نفوسهم وتاريخهم، وقد ذكر الله تعالى في كتابه التعددية الفكرية إذ عدد لنا الديانات التي وجدت في التاريخ البشري، وأوضح أن مسألة الحسم بينها في هذا الأمر ليس بيد الناس، وإنما هو أمر بيده تعالى وهو الذي يقرر يوم الحساب الفصل بين أصحاب الديانات.

لكن ما يحدث هو أن تتحول القناعات الفكرية لبعض الأشخاص ليس للفصل بين أصحاب الديانات فحسب، بل بين أصحاب الديانة الواحدة، فمن يشاركه في القناعات الشخصية يكون داخلا في الإطار الإسلامي، أما من يخالف رؤيته الفكرية واجتهاداته الفقهية، فهو مبتدع ضال، وكأن الله أنزل القرآن بقياس عقله هو، وأن فهم الدين أوكله إليه وحده، ونحن كي نقطع الطريق على مثل هذه الدعوات التي تستهدف تجزئة الأمة علينا أن نبدأ بالحرية فنؤصلها في جميع جوانبها، ولنبدأ من العقل فنحرره من قيود التبعية والتقليد الأعمى، فبالعقل نتحـرر وبـه نحرر أنفسنا ومجتمعنا ونحرك مسيرة الانبعاث الحضاري لهذه الأمـة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً