العدد 199 - الأحد 23 مارس 2003م الموافق 19 محرم 1424هـ

عندما أصبح المثقفون العرب جزءا من الأجندة الأميركية في حربها على العراق

«أسطورة الخلاص الديمقراطية»

دمشق - تركي علي الربيعو 

تحديث: 12 مايو 2017

يمكن القول ان ما يجمع المثقفين العرب في الداخل والخارج، هو هذا الايمان الايديولوجي بما سمّاها جورج طرابيشي «اسطورة الخلاص الديمقراطية» والتي اهم ما يميزها مثلها مثل اسطورة الوحدة العربية واسطورة الاشتراكية من قبل، هو انها ترهن النقلة الموعودة من الجحيم إلى النعيم بالشرط الذي تمثله هي نفسها، فقبلها لا شيء، ومن بعدها كل شيء، وهي بذلك تقدم نموذجا مكتملا لخطاب ايديولوجي حامل، لا لبرهان كما في الخطاب، بل لوعد. وهذا الوعد الذي يتعقل نفسه من دون ان يتعقل شروط تحقيقه، يمثل بدوره نموذجا لما تسميه الابستمولوجيا الحديثة باللامفكر فيه.

ان سحر القول في الديمقراطية من قبل المثقفين العرب، هو ما اضفى عليها طابعا سحريا وجعل منها مفتاحا سحريا يفتح جميع الابواب المغلقة التي اغلقتها «جمهوريات الخوف» بحسب كتاب كنعان مكية، شرط ان يمسك بهذا المفتاح الراعي الاميركي، فهو وحده دون غيره، يحسن قراءة طلاسم الباب والمفتاح معا أو يدك الباب والمفتاح وقلاع جمهورية الخوف على من فيها لينشر الديمقراطية في ربوع الجمهورية التي زال عنها الخوف. وهو وحده ـ أي الراعي الاميركي ـ الذي هو نسيج وحده باعتباره النموذج والمثال، من يحسن قيادة القطيع إلى جنة الديمقراطية ومرعاها الذي لا ينضب، فالراعي ينفخ والقطيع يتبع، هذا ما يقوله العهد القديم، وهذا ما يقوله «الصقور - الدجاج» بحسب التعبير التهكمي لإدوارد سعيد على الجناح المعسكري المتصهين في البنتاغون، والويل كل الويل لمن لا ينتظم في القطيع فعصا الراعي الاميركي طويلة وسكينته جاهزة.

من وجهة نظر بعض المفكرين ان هذا الايمان السحري بالديمقراطية التي قبلها لا شيء وبعدها كل شيء، ينتمي بكليته إلى النزعة التفاؤلية للديمقراطية التي سادت في عصر الانوار والذي يفيد عنها ان الديمقراطية ظاهرة نسبية خاضعة مثلها مثل الكثير من الظواهر لقانون التغيير. ولكن هذا الايمان السحري بالديمقراطية والذي يضفي عليها هالة من القداسة هو الذي يحولها من حدث تاريخي إلى حدث اسطوري، وهذه هي ميزة العقل الايماني والاسطوري الذي لايزال يطبع معظم نتاجات المثقفين العرب وشعاراتهم الراديكالية في الثورة والتغيير والديمقراطية. من هنا تظهر «اسطورة الخلاص الديمقراطية» كقبة معرفية تحول دون التفكير بما قبلها وبما بعدها، وهذا ما يفسر حال المثقفين العرب في تبعية الكثير منهم للراعي الاميركي، او للامير الاميركي بحسب التعبير التهكمي للمفكر السياسي «حسن نافعة».

على مسار تاريخي طويل، بقي المثقف العربي من اهل النوايا الطيبة، ولم يدر في خلده ابدا ان جهنم الاميركية مبطنة باصحاب النوايا الحسنة والطيبة كما يقول الحديث الشريف، وان «فخ» الديمقراطية الاميركية يمكن ان يصطاد الكثير منهم، سواء اولئك الذين خلعوا جلدهم العربي وتنكروا لأبناء جلدتهم أو أولئك الذين لايزالون يعيشون بين ابناء جلدتهم، فثمة قناعة وايمان كبير عند مثقفي الخارج (كنعان مكية وفؤاد عجمي) وعند الكثير من مثقفي الداخل العربي (عبدالمنعم سعيد ووحيد عبدالمجيد والعفيف الأخضر وعدد كبير يصعب احصاؤه) بأن الديمقراطية الاميركية المقبلة على اجنحة القاذفات العملاقة وعلى اجنحة صواريخ توما - هوك والتي من شأنها ان تحمي مئات الآلاف من العراقيين، يمكن لها ان تجلب مزيدا من الرخاء للشعب العراقي اولا وللشعوب العربية ثانيا الرازحة تحت نير الاستبداد.

وثمة قناعة عند الكثير من المثقفين في الخارج والداخل، ان كان لابد من هنا التقسيم الاجرائي، ان جنة الامبريالية تمثل سقفا للتاريخ بحسب التعبير الشهير لفرانسيس فوكوياما وواحة الديمقراطية. من هنا هذا الانحياز للامبريالية على حساب الفاشية والاستبداد، والوقوف إلى جانب النزعة الانسانية العسكرية الجديدة لحلف الناتو بحسب تهكم نعوم تشومسكي على حساب الحال الوطنية والدولة الوطنية التي لم تعد بدورها سقفا للتاريخ بحسب فرضية الرئيس التشيكي فاسلاف هافيل، والتي قدمت تبريرا للكثير من المثقفين العرب في وقوفهم إلى جانب الامبريالية. فمن وجهة نظرها مثل التي تعطي الاولوية للاخلاق على السياسة ولحقوق الانسان والديمقراطية على الدولة ان عصرنا الحالي يشهد نهاية «الدولة - الامة» التي لن تكون بعد ذلك «ذروة تاريخ كل مجتمع قومي فالحرب في هذا السياسة التي تبرر الحرب، وبالاخص الحرب الاميركية المقدسة، لم تعد تشن باسم المصالح القومية، بل باسم المبادئ والقيم وحقوق الانسان التي تهدرها الدكتاتوريات والانظمة الشمولية والاستبدادية في العالم، وهنا تكمن الاهمية الكبرى للحروب التي يشنها حلف الناتو المسكون حتى العظم بالمفارقة بهاجس النزعة الانسانية في تحرير الشعوب من نير الاستبداد والدكتاتورية. يقول هافيل: «التدخل مبرر مشروع شريطة ان يكون هدفه الوحيد مساعدة الشعوب في التخلص من الانظمة الاجرامية وحماية البشرية من شرور الاسلحة التي تمتلكها».

في سياق هذه النزعة «الانسانية» العسكرية الجديدة التي تبرر التدخل والحرب على العراق، يحتمي الكثير من المثقفين العرب في الداخل والخارج، ليطالبوا برحيل صدام حسين وبنزع اسلحة دماره الشامل مع ان الكثير يدرك انها لا تزيد على كونها بضعة صواريخ «سكود» بالية تآكلها الصدأ، فالحرب عبر هذه النزعة الانسانية التي يقع المثقف العربي في حبائلها، لم تعد غزوا امبرياليا اميركيا، بل فاتحة لعهد جديد وربيع بغدادي جديد يفوح عطره الديمقراطي على الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، لنقل وبحسب النشيد العربي «من الشام لتطوان» المدنية المغربية على المحيط الاطلسي، فقد اصبح العراق فاتحة لمستقبل العرب وهذا ما يقوله الكثير من المثقفين، وأخص بالذكر مقالة فؤاد عجمي في العدد الاخير من المجلة الاميركية «فورين افيرز» عن «العراق ومستقبل العرب» والذي يتحرق فيه شوقا إلى ضرب العراق، فالمهمة التي تنتظر الولايات المتحدة الاميركية في العراق جليلة، لا تحتمل المماطلة او التسويف، وتتمثل في تحديث العالم العربي الذي بات من منظور فؤاد عجمي لتفريخ الاستبداد والارهاب معا، وهذا ما يقوله توماس فريدمان ايضا. لنقل تحديثه عنوة، لان الثقافة العربية التقليدية باتت مرتعا للارهاب و«قابلية الاستبداد» كما يتحدث الكثير من المثقفين العرب وهذا ما يفسر هذا العداء الكبير لهذه الثقافة من قبل فؤاد عجمي الذي تنضح من كتاباته وكتابات كنعان مكية كراهية بدائية فجة للثقافة العربية والاسلامية بحسب تعبير حسن نافعة وادوارد سعيد.

ان الضرورات تبيح المحظورات كما يكتب وحيد عبدالمجيد، انه يستند إلى مكتب القاعدة الفقهية ليبرر الحرب، فالضرورة من وجهة نظره هي انقاذ بلد عربي، من هنا دعوته إلى تنحي الرئيس العراقي واشادته بالمبادرة الاماراتية، وخصوصا ان تنحي الرئيس العراقي بات مطلبا ثقافيا، ومهمة للمثقفين للعرب كما يكتب احد المثقفين السوريين الحالمين بجنة الديمقراطية والذي يعيب على المثقفين العرب القوميين المنضوين في «المؤتمر القومي العربي» وقوفهم إلى جانب الطاغية.

ان «هيصة الديمقراطية» على حد تعبير الفرنسي آلان منيك، هي التي تدفع المثقفين العرب إلى الوقوف والوقوع في فخ الديمقراطية الاميركية، وبالتالي تجعل منهم جزءا من الاجندة الاميركية في حربها على العراق. وجزءا من الحملة الكبرى التي يقودها اليمين الاميركي المتطرف لتهيئة الرأي العام لتقبل ضربة عسكرية ضد العراق تكون مدخلا كما يظن الواهمون وأصحاب النويا الطيبة من المثقفين لهبوب رياح الديمقراطية على العالم العربي ككل، وهذا ما يتكفل به المثقفون العرب في الداخل والخارج والذين قبلوا ان يكونوا من ضمن الاجندة الاميركية في حربها على العراق؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً