العدد 199 - الأحد 23 مارس 2003م الموافق 19 محرم 1424هـ

الوسط - حسام أبوأصبع

قوة التمييز

احتاج الكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارثيا ماركيز إلى 2190 ساعة عمل كي ينجز رائعته الخالدة «مئة عام من العزلة» في النصف الثاني من الستينات الماضية... واحتاج إلى حوالي نصف العدد السابق من الساعات لإجراء التعديلات والتصحيحات، وللحذف والإضافة، حتى تصبح الرواية المذكورة جاهزة للنشر، في مدة لم تتجاوز 18 شهرا. كما لم يلزم الكاتب سوى سنوات قليلة - أقل من عقدين من الزمن - حتى يظفر بنوبل، وتطبق شهرته الآفاق. ويصبح من ثم من أعلام القرن، وتوضع رائعته هذه في واجهة ما أنتج عالميا خلال نصف قرن، إذ يرى البعض انها أهم عمل أدبي صدر خلال الفترة المذكورة.

ولم يلزم ماركيز أكثر من عشرين سنة أخرى حتى يتبرأ من هذه الجائزة جهارا نهارا، حين أصدر بيانه الشهير منفردا، الذي يتبرأ فيه من الجائزة التي وصفها بالعار، لأنها فتحت - في نسختها التي تمنح للسلام - الطريق على مصراعيه أمام المدرسة الصهيونية الحديثة ممثلة في شارون لارتكاب المذابح والجرائم. وحيّا في الوقت نفسه صمود الشعب الفلسطيني بوجه الآلة الصهيونية. وقد لا يكون صاحب «خايمي دي سان أمور» الرائع في «الحب في زمن الكوليرا» بدعا في ذلك، فالأصوات الشريفة موجودة أبدا في كل مكان، على رغم اختلاف ألسنتها وثقافتها... وقدرتها على التمييز والتحليل للوصول إلى قناعات معينة، هي عنده لب الحقيقة.

أنتقل إلى مسألة أخرى، أو جملة معينة تحدث طنينا غريبا في أذني وفي عقلي قالها «علي حرب» منذ مدة، حين كتب أن ردات الفعل العربية إزاء طرح فرانسيس فوكوياما عن مسألة «نهاية التاريخ»، لم تكن بالقوة والجسارة نفسيهما التي جاء بهما طرح ياباني الأصل السابق، الذي أعلن موت الإنسان، وأكد أن حركة التاريخ قد توقفت راضية مرضية لما وصلت إليه الأمور، أو بتعبير الفرنسي «ليوتار» - الأقل حدة - الذي قال باختفاء السرديات الكبرى.

مسألة ثالثة يؤكدها دوما محمد جابر الأنصاري في حديثه عن الفواتير التاريخية التي لم يدفعها العرب بعد، وأنها ستدفع حتما في يوم ما - كما يقود الاستدلال مباشرة - بسبب عدم تصفيتهم قضايا كثيرة، ظلت تحملها الأجيال كابرا عن كابر، تتناقلها الألسن، وتخفيها وتعلنها الصدور، وكأنها عنعنة حتمية.

والسلك الذي يجمع هذه المنفصلات هل بدأ حقا الآن تسديد الفواتير المتراكمة، وهل ردات الفعل التي يمكننا تلمسها هي بقوة الفعل نفسها - الثابت أن الفعل دائما أقوى وأعنف من الرد عليه - وهل نحن بحاجة إلى الكثير من الوقت حتى نعلن رأينا وموقفنا أو حتى مراجعتنا، وفعلنا... أم أن صاحب «خريف البطريرك» هو وحده الذي يمتلك قوة التمييز. وهو وحده القادر على تسفيه الأكاذيب المعلنة، وغير المعلنة... وحتى حين ليفرح هنتجتون صاحب كتاب القرن - كما يطلق عليه -... لكننا نأمل ألا يكون كذلك





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً