عندما اجتمعت الجمعية العمومية لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية قبل ثلاثة أيام أثيرت نقطة في دستور الجمعية بشأن عضوية الجمعية، واشتد النقاش عندما طرح تعديل للمادة يمنع ازدواج العضوية في جمعية تعمل في نشاط مماثل لنشاط الوفاق.
ولعل هذه المشكلة هي أولى المشكلات التنظيمية التي ينبغي حسمها لكي تتحول جمعياتنا السياسية إلى أحزاب سياسية.
هناك فرق كبير بين انتماء فرد، إلى عدة جمعيات ذات تخصصات مختلفة، ولكن لا يمكن لعضو أن يعمل في مؤسستين تسعيان لهدف متشابه. فهذا أمر مهم يتعلق بجدية العمل السياسي المنتج، إذ لا تسمح الشركات والمؤسسات المماثلة لمن ينتمي إلى واحد منها أن ينتمي إلى أخرى. فلا يمكن لمدير في مصرف مالي يقدم خدمات للمواطنين أن يعمل في مصرف مالي آخر يقدم الخدمات نفسها، أو يتعامل في المجال نفسه. فهذه الازدواجية تعني أن المرء لم تكن لديه رؤية واضحة عن هذه الأمور.
الحزب السياسي يتطلب رؤية واضحة عما ينبغي السعي إليه في الشأن العام، ويتطلب تنظيما موحدا لتنفيذ تلك الرؤية ويتطلب قيادة مقبولة تقود أعضاء التنظيم الذين آمنوا بالرؤية الموحدة.
التعددية تعني ان الشخص الذي لا يؤمن بهذه الرؤية يمكنه أن ينتمي إلى حزب آخر يلائمه، وبالتالي يستطيع تقديم أعماله ضمن قيادة ذلك التنظيم. فالوحدة التنظيمية من أهم مميزات الحزب السياسي، وأي حزب ليست لديه لجنة تنظيمية وانضباطية فهو ليس حزبا، وإنما نادٍ أو جمعية يمكن لأي امرئ أن يدخل أو يخرج من دون التفات لجدية الالتزام بشروط العمل التنظيمية.
الحزب الذي يخرج إلى الساحة للمشاركة في العمل الوطني العام يتوجب عليه أن يطرح خطته وأفكاره الموحدة بين أعضائه (أو التي توافق عليها الأكثرية)، ويتوجب على العضو الالتزام بتلك الخطة، وإذا لم يلتزم يتم تجميده أو فصله من الحزب.
لا يستطيع حزب مثلا أن يطلب استخدام تسهيلات حزب آخر أثناء الانتخابات. فلا يمكن أن يتقدم لحزب آخر طالبا منه ايصال أعضائه الذين دخلوا الساحة لتنفيذ برنامج مختلف إلى مواقع القرار. هذا إذا كنا نتحدث عن عمل حزبي على الأسس الصحيحة.
أما إذا كنا نتحدث عن عمل جمعيات أهلية طوعية تجتمع مع بعضها، على رغم عدم اتفاقها على خطة عامة وتجتمع كل مرة ولا تخرج بقرارات واضحة، والقيادة تكون مشدودة بين اتجاهات متناقضة، فان العضوية الصارمة ليست لها ضرورة. فالعضوية الصارمة هي للعمل الحزبي الجاد الذي يتحرك باعتباره جهازا متناسقا ومتكاملا ومتوحد الرؤية والوسيلة.
ان التعديل الذي طرحه أعضاء الوفاق يتوافق مع متطلبات العمل الحزبي الجاد، ويتلاءم مع ضوابط الأعمال المنظمة. ولكن الوفاق تواجه تحديات كبيرة، داخلية وخارجية، لكي تتحول إلى حزب سياسي.
فجماهير الوفاق هي الجماهير التي تحركت خلال انتفاضة التسعينات، ولديها سمات متشابهة وخطوط اجتماعية وثقافية ودينية متناسقة. ولكن هذه الجماهير كانت أكثر تنظيما تحت الضغط في فترة قانون أمن الدولة. وذلك أمر طبيعي، إذ ان أي جماعة تسعى إلى التوحد ورص الصفوف وتناسي الخلافات خلال الأزمات التي تواجهها وتهددها. ولكن عندما يرتفــع الضغط ينتهي الدافع التوحيدي وتصبح الأمور أكثر تعقيدا وتحتاج إلى آلية تنظيميــة أكـثر تطورا لاسـتيعاب جميع الآراء، ولكن من دون أن يتسبب ذلك في شلل عام يشل المجموعة من التقدم إلى الأمام بخطوات قد تتطلب صلابة في أمر ما، ومرونة في أمر آخر.
الجانب التنظيمي للوفاق هو أكبر تحدٍ يواجه أكبر جمعية سياسية لديها امكانات ونفوذ على الجماهير لا تتوافر إلى غيرها. وإذا لم تتصد الوفاق لهذا التحدي فإنها مهددة بالشلل والعجز عن القيام بأي دور سوى الاستمرار في قدرتها على حشد الجمهور. وحشد الجمهور من دون آلية تنظيمية مناسبة يعني تحول الوفاق إلى نشاط جماهيري عام تؤثر فيه المواقف الحماسية والعاطفية والآنية، وربما يفقد بسبب ذلك القدرة على التأثير على الشأن العام على المدى البعيد. ذلك لأن الحماس يصلح لتحريك مظاهرة ويصلح لانتفاضة ولكن لايصلح بالضرورة لإدارة عمل شاق يتطلب الدخول في قلب المعترك السياسي العام مع كل ما يتطلب ذلك من حوار مع الآخر، وتنازل عن جزئية معينة هنا، في مقابل الاحتفاظ أو الحصول على جزئية معينة أخرى، هناك.
الانتقال من الحال الجماهيرية إلى الحال التنظيمية يتطلب أكثر من تعديل دستوري. إن ذلك يتطلب تحديد الرؤية والخطة والأفكار الرئيسية للوفاق تجاه القضايا العامة، ويتطلب تحديد (بصورة عامة) الوسائل التي ستتبعها لتحقيق تلك الخطة وتلك الرؤية، ويتطلب تكوين جهاز انضباطي يمسك بزمام الأمور ويرص الصفوف في الأوقات الحرجة، لاسيما عندما تكون هناك آراء مختلفة. فإدارة الحوار، ثم تنفيذ القرار الحائز على أكثرية الأصوات، وعقلنة الوسائل والأهداف، جميعها أمور تتطلب الانتقال - بصورة فعلية - من جمعية إلى حزب. وهذا الانتقال يتطلب كوادر مدربة تدريبا مناسبا، وإلا أصبح التغيير شكليا، وتعود الحال الجماهيرية لتسيطر على التنظيم، وربما تتسبب له بالشلل التام
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 197 - الجمعة 21 مارس 2003م الموافق 17 محرم 1424هـ