انتهت مهلة الانذار الاميركي للعراق. ويفترض ان تكون واشنطن باشرت عمليات الهجوم العسكري لتبدأ معه أكبر عملية نصب واحتيال في مطلع القرن الجديد. انها خطوة أولى في سلسلة لا تنتهي من الضربات التي قيل ان الولايات المتحدة ستقوم بها تحت غطاء «عقيدة بوش» الامنية. تقول تلك الاستراتيجية التي اقرتها ادارة البيت الابيض في سبتمبر/ ايلول الماضي بـ «الضربة الاستباقية» وتعني ان من حق الولايات المتحدة الهجوم في اي مكان وزمان اذا رأت ان هناك احتمالات خطر يتوقع حصوله بناء على فرضيات ومعلومات ليست موثقة ومؤكدة.
الفكرة الهجومية تقوم على نظرية اختراع الخطر وتأليف عناصره قبل ان تتشكل فعلا على ارض الواقع. ومثل هذه الفكرة تفترض استعدادات دائمة للقيام بحروب دائمة من دون ضرورة للعودة إلى الأمم المتحدة أو دول مجلس الأمن لأن القانون الدولي لا يجيز استخدام القوة اذا لم تكن هناك مبررات وذرائع كافية. وهذا ما حصل بالضبط بين إدارة بوش ودول مجلس الأمن في موضوع العراق.
هناك ما يشبه الاجماع على ان العراق لا يشكل ذلك الخطر الحقيقي. واذا كان هناك من مخاطر يمكن تذليلها عن طريق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن وبعثات التفتيش الدولية... الا ان ادارة واشنطن تصرفت وفق عقيدتها الامنية الجديدة ولم تأبه كثيرا للمعايير الدولية التي تعتمد مقاييس دولية للحروب واحتواء الازمات.
هانز بلكيس في تصريحاته الاخيرة، وعشية انتهاء الانذار الاميركي، جدد كلامه عن عدم امتلاك العراق لتلك الاسلحة الخطيرة (الدمار الشامل) وأكد ان بغداد لا تستطيع استخدام اسلحتها حتى في حال توافرها. فالقوة العراقية قصمت منذ حرب الخليج الثانية (1991) وما كان يملكه النظام لم يعد له وجود، واذا وجد بَطُل استخدامه وتراجعت امكانات اعادة تجديده بسبب انتهاء مدته.
الا ان كلام بليكس، مثله مثل كلام الدول الكبرى الاخرى، ذهب ادراج الرياح وضاع مع ضجيج آلات الحرب التي استعدت للهجوم ولا شيء يوقفها سوى تلبية رغبات استراتيجية الهجوم الدائم لمنع قيام مخاطر تعتقد انها ستقوم بعد فترة غير معروفة... وقد لا تقوم اطلاقا.
ماذا تعني الحرب على العراق؟ الحرب ليست ضد نظام في بغداد بقدر ما هي استراتيجية عامة تقوم على فكرة الخوف من العالم. والخوف من العالم يفترض الاستمرار في مواجهات دائمة حتى يخاف العالم من الولايات المتحدة. فالاستراتيجية الهجومية تعني ضمنا نقل المخاوف من طرف إلى آخر وتخويف دول الارض من قوة ضخمة تقول انها خائفة من المجهول... المستقبل.
اميركا خائفة من المستقبل. وتصرفاتها الاعتباطية تدل على انها دخلت سن اليأس وان المقبل من السنوات سيضاعف من بؤسها وعجزها وقابليتها لمواجهة متطلبات حياة لا تقوى على فهمها وادراك تعقيداتها.
ستربح اميركا معركتها العسكرية ضد العراق بسهولة وفي الساعات الست الاولى... الا انها لن تنتصر في الحرب. فالحرب طويلة وشروطها السياسية ليست لمصلحة إدارة بوش واشرار الحزب الجمهوري. يستطيع اشرار البنتاغون التخطيط لمعركة عسكرية وربحها في اي مكان في العالم. الا ان الحرب في النهاية سياسة ومن يعجز عن فهم السياسة يخسر معاركه حتى لو ربحها عسكريا.
العراق (وليس النظام) انتصر سياسيا قبل ان تبدأ الحرب، واميركا هزمت في معركة انتصرت فيها عسكريا. هذه هي المعادلة التي يجب ان تقرأ عناوينها ادارة بوش. وهي عناوين المستقبل ولا صلة لها بالحاضر.
ربحت اميركا معركتها العسكرية، وهي جرت من طرف واحد ضد لا شيء. والسؤال ماذا بعد؟ ماذا سيقول جورج بوش لشعبه وللعالم: لقد انتصرت؟ ما هي المفاجأة في الموضوع؟ وما هو الجديد الذي يقوله في معركة محسومة نتائجها قبل ان تبدأ؟ اين البهجة والفرح في مسألة يعرف بوش نفسه انها مجرد عملية نصب واحتيال وخداع قامت بها ادارته لمصلحة تجار الاسلحة والنفط... وعلى رغم انف العالم. كل العالم يعرف من هو المذنب ومن هي الضحية؟ والعالم كله يدرك ما هي الاسباب الحقيقة لعملية النصب والاحتيال والخداع.
ربحت أميركا المعركة. وماذا بعد؟ ما هي الرسالة السياسية التي تريد قولها أو توجيهها للعرب والمسلمين والعالم؟ وكيف ستتصرف غدا بعد اليوم؟ وهل بالمال وحده تقوم الحضارات وتسقط الحضارات؟
ادارة بوش عندما خططت لهذه المعركة لم تفكر أبعد من أنفها. قرأت الارباح الناتجة عن هذه المعركة. مئة مليار دولار للتدمير ومئة مليار دولار لاعادة الاعمار. واخيرا طلب تجديد فترة رئاسته في العام 2004. أخطأ بوش كما اخطأ والده في حرب 1991 وانتخابات 1992. فمن يربح معركة مخططة ومنظمة ومفتعلة لا ينتصر بالضرورة بالشروط ذاتها في السياسة. السياسة مسألة اخرى. وتبدأ تحديدا قبل المعركة وبعدها. ومن يخسر سياسيا قبل المعركة ينهزم سياسيا بعدها. ورهان بوش على ان المعركة تؤسس آلياتها الخاصة والمستقلة وتعيد تجميع القوى التي انفكت عنها هو من الرهانات الخاسرة. فبوش خسر من حيث فشل صدام... فهو جمع أكبر تكتل سياسي عالمي ضد الولايات المتحدة.
انتهت مهلة الانذار الاميركي للعراق، لتبدأ مهلة الانذار الدولي للولايات المتحدة. انها حرب طويلة. ومن يربح السياسة ينتصر في المعركة العسكرية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 195 - الأربعاء 19 مارس 2003م الموافق 15 محرم 1424هـ