العدد 193 - الإثنين 17 مارس 2003م الموافق 13 محرم 1424هـ

نزعات الإرهاب في العالم العربي هي تصويت على خراب المجتمع

محمد جابر الأنصاري في حوار مع «الوسط» (2-2):

أجرى الحوار - حسام أبواصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

يرى محمد جابر الأنصاري أن المستجدات التي تزخر بها الساحة إقليميا وعالميا في الوقت الراهن لا تشكل سوى فرقعات صغيرة ، وأن السيناريوهات المرعبة التي يتحدث عنها البعض ستتواصل حيالنا دون توقف، لكنها لن تشكل في النهاية إلا مجرد تفاصيل قياسا بالتحولات الكبرى التي شهدها التاريخ، وفي سياق آخر أوضح الأنصاري أنه مالم يستطيع الفكر النفاذ إلى عقول البشر، وعقول القوى المؤثرة في التاريخ ، سيبقى هذا الفكر كلاما نظريا ووعظا مثاليا .. مؤكدا في سياق آخر أن الدول والأمم إذا ما أرادت أن تكون مؤثرة فيجب عليها الانضمام إلى منتدى الأقوياء، ولابد من التخلي عن الأسلوب الانتحاري اليائس الذي لم يؤد إلى أية نتيجة أو فائدة... حول هذه الإشكالات وغيرها... كانت لنا هذه الوقفات مع الأنصاري لنستكمل بها حوارنا معه ..

وفيما يلي تتمة الحوار ...

وجهت انتقادات عنيفة إلى إحدى ممارساتنا الفكرية والسياسية الأثيرة، وهي التوفيقية وإفرازها الأساسي المتمثل في حال اللاحسم، ولكن ألا تعتقد أن هذه التوفيقية المؤجلة لعدد هائل من القضايا شر لابد منه أم هي الوصفة السحرية؟

- نعم، منذ بداية عصر النهضة أو العصر الحديث إلى يومنا هذا نواجه واقعا عربيا وإسلاميا كثير التناقضات، ومن ذلك التناقض بين المثال والواقع، وذكرت سابقا أننا في أمة تعلن أفضل المبادئ، وتعيش أسوأ الأوضاع، أين إذا الحلقة المفقودة. فلا بد لفكر الأمة أن يتجه هذا الاتجاه، وأذكر أنني اندهشت ذات مرة من الشيخ يوسف القرضاوي - وهذا مثال - وهو مفكر إسلامي له احترامه، حين ألقى هنا في البحرين محاضرة منذ سنوات بعيدة، وقال إن المسلمين سيحررون روما، وهناك أحاديث وبشائر تؤكد ذلك، بينما القدس محتلة إلى يومنا هذا. فيا شيخ، يا قرضاوي، أفهمنا كيف يمكننا تحرير القدس... وقد تكون هناك أحاديث صحيحة بشأن فتح روما، لكن التوقيت غير مناسب، ويثير عداء الآخرين. وقبل ذلك ينبغي تحرير هذه الأمة من أدواء كثيرة، ومشكلات كثيرة، ومن أنظمة مستبدة كثيرة... وهذا نوع من الحول في الرؤية بقصد مجرد رفع معنويات المسلمين على غير أساس، وفي اعتقادي ان مثل هذه التصريحات تمثل الجانب الآخر من جلد الذات عن طريق تضخيمها، وإلا ما مصلحة المسلمين اليوم في الحديث عن تحرير روما.. وأما عن التوفيقية فهي تناسب أوضاعا معينة، وهناك في الحياة البشرية عموما أو في أي مجتمع ينطوي على تناقضات، وبعض هذه التناقضات لا يستطيع الإنسان حسمها بل يجب التعايش معها، فالتوفيق بينها هنا هو الحل الأسلم. ولكن هناك تناقضات في المجتمع في أوقات التحول التاريخي لا بد من حسمها، وإلا فإن هذه الصيغة ستصلح لبعض الوقت وليس كله، لأنك لا تستطيع أن تضع التاريخ في ثلاجة، أو القوى الاجتماعية في ثلاجة.. ولنأخذ مثلا بسيطا على الصعيد الطبي، فالطبيب الذي يكتشف حالا سرطانية فالحل التوفيقي هنا خطير، ولا بد من الحسم لإجراء عملية جراحية واستئصال الورم، وإلا كانت الحال ميئوسا منها.. فمن تجارب الشعوب والأمم، سواء الأمم الغربية المتقدمة اليوم، أو الأمم الشرقية التي نهضت، توجد هناك لحظة تاريخية تقدم فيها الأمة على الحسم، فكانت الصين واليابان مثلا تعاني من التجزئة بشكل أو بآخر، واستطاعت تحقيق الوحدة بالطريقة التي تناسبها، فليست هناك صيغة معينة للوحدة، ولكن يجب أن يحسم وضع التجزئة، والضياع والتعدد والصراع والتشتت إلى وضع وحدة، سواء كانت وحدة فيدرالية، أو كونفدرالية، أو وحدة إرادة، والموقف التاريخي يحتم عليك ذلك.

فهل تستطيع أن تقيم توفيقية بين الوحدة والتجزئة؟! أضرب مثلا آخر هو جامعة الدول العربية التي تمثل التوفيقية الفاشلة. وهي أقدم منظمة إقليمية في المجتمع الدولي بأكمله. ولأنها قامت على هذه التوفيقية في إبقاء التجزئة، وحس السيادة القطرية المطلقة، التي هي خرافة اليوم حتى على مستوى الدول الغربية.. فبريطانيا وفرنسا وألمانيا اليوم في إطار الوحدة الأوروبية لا تمتلك السيادة الكاملة وهي من الدول الكبرى... والأمر ينطبق على مجلس التعاون الخليجي، فأنت لا تستطيع أن تحتفظ بسيادة مطلقة، وأن تنشأ منظمة وحدوية أو كونفدرالية أو تعاونية... هذا تناقض مع الذات وهو تلفيق... وفي السياق نفسه أتساءل هل تستطيع أن تقيم ديمقراطية بقوى غير ديمقراطية مثل الحزب النازي الهتلري الذي فاز بغالبية الأصوات باسم الديمقراطية، ثم حول ألمانيا إلى شيء آخر.

وعادة ما توحي الينا الديمقراطية بأنها فكرة سلمية وهادئة وتطورية، ولكن في لحظة من لحظات التاريخ لابد للديمقراطيين أن يحسموا الموقف، لأن القوى غير الديمقراطية التي تلعب هذه « اللعبة »، ستلعب معك إلى بعض الوقت - وأتحدث هنا بصفة تاريخية عامة وشاملة ولا أشير لوضع معين - وطالما كانت القوى المسيطرة غير ديمقراطية سواء على صعيد السلطة أو المعارضة أو الشارع، اشك في أن تستمر الديمقراطية من دون حسم بين أنصار الديمقراطية وبين أعدائها.

ولكن أليست التوفيقية تمييعا للحسم؟

- من دون شك، والكثير من المجتمعات العربية وصلت إلى خطاب تغييري وديمقراطي ونهضوي وتنويري، لكنها لم تستطع في اللحظة المناسبة أن تحسم أمورها، وكما قلت في كتابي «صراع الأضداد» ان هذا الفكر الثوري الذي اجتاح المنطقة العربية، هو في التحليل النهائي، فكر توفيقي، مثل الناصرية والبعثية حتى التيارات الماركسية واليسارية اضطرت في النهاية إلى اللجوء إلى التوفيق، ولم تطرح فكرا حاسما، ناهيك عن برامج حاسمة.. وفي العام 1967 انكشفت الأيدولوجية التوفيقية ، وعادت المتناقضات إلى الظهور من جديد، كما هي اليوم في العالم العربي.

لذلك لسنا ضد الصيغة التوفيقية بالمطلق، ولا مع الحسم بالمطلق، ولكن يجب أن ندرس كل حال بمفرده، وأضرب مثلا آخر من التاريخ هذه المرة وهو أن الفلاسفة المسلمين نجحوا في إقامة توفيق مع الفلسفة الإغريقية، وهي فلسفة تقوم على الإيمان، لذلك جاءت هذه التوفيقية الإسلامية الكلاسيكية القديمة قوية وذات مصداقية، لأنها توافقت مع فكر فلسفي مؤمن... بينما التوفيقية الإسلامية المعاصرة تحاول أن تتوافق مع فكر غير مؤمن، والفكر الغربي الحديث هو فكر مادي وعلماني... فإذا استطاع ابن رشد عمل توفيقية مع الفلسفة الإغريقية... فكيف تستطيع أنت يا حسن حنفي أو يا جابري، القيام بذلك ؟ فأنت أمام فكر فلسفي مختلف تماما ..

فمحمد عابد الجابري في المغرب قدم جهدا كبيرا لإحياء ابن رشد، لكن ما يجب التنبه إليه أن ابن رشد أقام فكرا توفيقيا مع فكر مؤمن، بينما تواجه أنت اليوم فكرا غير مؤمن... والأفضل هنا أن نعترف بالجدلية، وبوصفك مفكرا مسلما معاصرا لا تستطيع إنكار التيارات الأخرى، ولكن تقول بأمانة ان هذا الفكر إيماني وأنا أتوافق معه، أو أن هذا فكر مختلف وأنا أتعايش معه، وأرد عليه الحجة بالحجة...

ذكرت في مداخلتك على بحث «علي خليفة الكواري» الخليج العربي والديمقراطية، ان الديمقراطية لا تأتي بقرار حكومي، ولا بمنشور معارضة وأنها كي تتحقق لا بد ان تأخذ مداها الزمني، وذكرت مثال بريطانيا التي احتاجت إلى 8 قرون حتى تتحقق فيها الديمقراطية... فما المدى الزمني المفترض لفترة الديمقراطية التي وصفتها بالشموع الصغيرة، وكيف يمكن لنا أن ننظر إلى جدوى حرق المراحل هنا...؟

- من الملح علينا اليوم نحن المجتمعات العربية أن نباشر الديمقراطية، ولكن هذا لا يعني أن نقفز إلى وضعية ديمقراطية مثالية لا تستطيع الحياة في الواقع، حتى لا نخدع أنفسنا. ويجب قبل كل شيء أن نتبين مواضع أقدامنا، وأعتقد أن على المفكر أن يهتم بالحقائق على أنها حقائق، وأن يهتم قبل كل شيء بالجانب المعرفي، وألا يستجيب لإغراءات الجمهور أو الشارع السياسي أو إغراءات السلطة. وهذا ما يجب أن يكون عليه المفكر الحقيقي، وأن يكون مستقلا عن السلطتين، وعن المؤثرين، وأن يحدد الحقائق ثم يأتي أصحاب القرار السياسي، أو الأحزاب أو الأيديولوجيين ويتسلمون هذه الحقائق وتستفيد منها إذا أرادت. ومن المهم أن تستفيد من حقائق العلم لأنها إذا أقامت أيديولوجياتها على غير الحقيقية، فستنتهي كما انتهى الكثير من الأيديولوجيات. فالحقائق المعرفية والعلمية بالنسبة للديمقراطية هي أنها تحتاج إلى حد أدنى من المجتمع المدني المتقبل للديمقراطية، والذي يمكن أن يصبح فاعلا، وبحد أدنى من تطور الطبقة المتوسطة التي هي قاعدة للديمقراطية... كما نحتاج إلى أطراف أساسية تؤمن بالديمقراطية، اذ ستوجد أطراف غير أساسية ستدخل إلى اللعبة الديمقراطية، ومعروف تاريخيا أن الشيوعيين في بريطانيا لا يؤمنون بالديمقراطية، ولكنهم دخلوا في هذه العملية كأطراف غير أساسية ولكن الأطراف الأساسية هي الملكية القائمة هناك، والحكم والمعارضة بالإضافة إلى الحزبين الرئيسيين أو الثلاثة. فهذا ما عليه المحك. أما لو كان الشيوعيون قوة مؤثرة في بريطانيا لكان مصير ديمقراطيتها شيئا آخر.

إذا تحتاج الديمقراطية إلى تطور تاريخي مجتمعي معين، وتحتاج إلى لاعبين أساسيين من حكم ومعارضة يؤمنون بالديمقراطية. هذان شرطان لابد منهما، وإلا فلا وجود لديمقراطية من دون ديمقراطيين.

أما عن حرق المراحل بالمطلق فهي عملية فاشلة وخطيرة وتؤدي إلى كوارث، فالإنسان حتى يصل إلى مرحلة الشباب لا بد ان يمر بمرحلة المراهقة. فلا بد من مراحل معينة، والسؤال كيف ترشد هذه المرحلة أو كيف توجهها وهذا بحث آخر.

أما الذين يريدون حرق المراحل، فإنهم لن يحرقوا إلا أصابعهم كما حدث في الاتحاد السوفياتي، وروسيا اليوم تعود إلى مراحل أولية وبدائية في الرأسمالية والديمقراطية. وأعتقد انه بالإمكان اختصار المراحل بذكاء وجهد، ولكن حرق المراحل بالقفز عليها غير صحيح. وبالتالي يجب ألا نتعجل النتائج، وأن يكون لدينا نفس طويل وخصوصا في التطور الاجتماعي والتطور التاريخي. ونحن العرب مطالبون بذلك. أما القفز إلى وضعيات مثالية نتمناها وبهذه السرعة، فهذا لا يمكن أن يكون إلا في الإعلام التلميعي، وفي الخطاب الذي يوزع الأوهام على صعيد السلطة أو المعارضة. أما في الواقع الحقيقي فلابد أن نرى مواضع أقدامنا، وأعتقد أننا لن نستطيع الوصول إلى مثاليات، فالأمور التطويرية نسبية دائما. ولا نستطيع عبور الجسر إلا إذا وصلناه.

إلى أي مدى تؤمن بقدرة الثقافة أو الفكر على تأجيل الصراع، أو إرجاء هذه اللغة العنيفة الطاغية؟

- ما لم يستطع الفكر النفاذ إلى عقول البشر، وعقول القوى المؤثرة في التاريخ، سيبقى هذا الفكر كلاما نظريا، ووعظا مثاليا. فإذا لم تستطع إيصال فكرك إلى البشر، فسنظل نعيش تحت شعار أفضل المبادئ وأسوأ الأوضاع، بينما رفوف المكتبات مكدسة بالأطروحات الفكرية التي لا يعمل بها أحد. والخطورة هي ما نجده في واقعنا العربي من نزعات متطرفة بسبب الفكر اليائس الانتحاري، الذي يغذيه بؤس وفساد أوضاعنا العامة السياسية والتربوية والاجتماعية، وقد اقتنع هؤلاء بجدوى هذا الفكر.

والشعوب إجمالا تقبل على شيء معين لرفضها شيئا آخر. وأضرب مثلا الانتخابات التركية الأخيرة التي أسقطت العلمانيين والليبراليين والتغريبيين، لأن الشعب أراد أن يقول لهؤلاء أنتم فاسدون. والمسألة ليست حبا في علي وإنما كرها لمعاوية، وحتى الجماهير التي مشت وراء الثورة الإيرانية، كان ما يحركها كره الشاه، وليس التشوق لشيء غامض... وما يحدث في العالم العربي من نزعات عنف وتطرف وإرهاب ليس بهدف الإرهاب ذاته، وإنما تصويت ضد شيء فاسد ينخر المجتمع.. فما لم نعالج هذا الفساد والنخر والخراب، فإن الناس سيصوتون لهذا التطرف نكاية بهذا الخراب. ويعلمنا التاريخ أن الشعب المصري في 23 يوليو/ تموز سنة 1952 اندفع وراء الثورة ليس حبا في العسكر لأنه لا يعرفهم ولم ير وجوههم، وإنما ضد الفساد الموجود. وكذلك فعل الشعب العراقي سنة 1958. لكن المهم أن يقول المفكر أو المثقف الحقيقة بالاستقلال عن أية سلطة أو غرائز أخرى. وأسوأ المفكرين هم الذين يسايرون غرائز الجماهير أو غرائز السلطة، والكثير من المشروعات العربية أفلست «لأن الجمهور عايز كده» وهذا المبدأ لا يقتصر على شباك تذاكر السينما، بل يمتد إلى شباك السياسة، وشباك الدين.

ازدادت في الآونة الأخيرة الدعوات التي تستهدف أسلمة العلوم، وأعتقد أن المكتبة العربية بدأت تستقبل الكثير من المؤلفات عن هذه المسألة، كما نجد في الوقت نفسه تنظيرات هنا وهناك تدعو إلى أسلمة الفنون... كيف تنظر إلى هذه المسألة في ضوء طرح سابق لك في احدى دراساتك الموسومة بـ « لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع» والمنشورة في كتابك «مساءلة الهزيمة»، وتحضرني هنا حادثة الناقد السعودي عبدالله الغذامي حين قال انه لا يوجد شيء اسمه أدب إسلامي... وإنما يوجد أدب أو لا أدب، ما أثار سخطا وغضبا عارما عند الكثيرين... وشن عليه هجوم كبير..

- أعتقد أن هناك جوانب إبداعية، وجوانب في الإنتاج الثقافي والفكري من الممكن أن تخضع إلى القيم والروح الإسلامية، ولكن أسلمة العلوم أرى بوصفي باحثا أنني لا أستطيع القبول بها، لأن هناك علوما محايدة، وخصوصا العلوم التطبيقية، والعلم - كما نعرف - يختلف عن الإيمان، ومن شروطه الوصول إلى الحقائق التي تستطيع إثباتها. فبينما الإيمان قناعة في القلب، وأعود هنا إلى مثال الطبيب - مرة أخرى - ونحن بحسب اعتقادنا الإسلامي نعرف أن الإنسان عبارة عن جسم وروح، والطبيب بكل أدواته وأجهزته المتقدمة يستطيع أن يخضع الجسم للتحليل، ولكنه لا يستطيع أن يرى الروح لأنه لا يمــــلك الأداة. لكن هل هذا ينفي وجود الروح؟ فعجز الطبيب أو العالم عن اكتشاف الروح لا يعني انتفاء وجودها، ولكن مع عدم اكتشافه الروح بوسائله القاصرة يفترض ألا تترتب عليه تبعة أن نكفره مثلا.

والباحث في العلوم التطبيقية، أو الباحث في التاريخ، وأعني بالباحث الباحث الدقيق الذي يحاول اكتشاف الجزئيات والوقائع والحقائق، ويستطيع أن يثبتها بوسائله وأدواته، وكون الباحث في التاريخ أو المؤرخ لم يستطع إثبات الوحي مع إيماننا الراسخ بوجود الوحي كحقيقة أساسية، فهذا لا ينفي الوحي أولا، وليس هذا سببا لإعطائنا الحق في تكفيره لأن أدواته قاصرة عن رؤية الوحي. فقضية أسلمة العلوم بالمطلق لا يمكن القبول بها، انطلاقا من التجربة الحضارية للإسلام نفسه، فهناك علوم طبيعية لم يطالب الإسلاميون القدامى بأسلمتها، وكانت أيامها البحوث متوافرة في الفلسفة والفيزياء وفي الصيدلة، فهل تمت أسلمتها؟ ومن يعود إلى ثقافة الجاحظ في كتبه مثلا سيجد فيها معرفة إنسانية يكتبها عالم مسلم من زاويته الإنسانية الحرة، مقاربا الحقائق والوقائع كما يراها... كما أن هذه الأسلمة غير ممكنة في الأدب أو الدراما، ومن الممكن إبراز الموقف الإسلامي، أو وجود شخصية تمثل موقف الإسلام وقيمه، لكن هذا لا ينفي الشر، فالقرآن الكريم نفسه أبرز لنا شخصية الشيطان، حتى في تجاوزه أدب الحديث مع الله سبحانه وتعالى. والقرآن أيضا جاء بحديث الكافرين في سياق الرد عليهم، وهو أفضل مصدر للتعرف على عقائد الجاهليين، والمؤمنين بالدهرية والملحدين.

فمبدأ الأسلمة بصفة عامة ومطلقة غير ممكن، وأعتقد انه لن ينجح. ويجب أن نميز بين ما يمكن أن يكون فيه توجيه إسلامي، وبين ما لا يمكن أن يكون فيه ذلك.

وأعود مرة أخرى إلى ذكر مثال الطب، ففي دراسة الطب، نجد الطبيب المسلم أو الطبيبة المسلمة يدرسان هذا العلم كما هو، ولا يمكن بحال من الأحوال أسلمة المعلومة الطبية، وإنما تبقى قيم الطبيب المسلم وتعامله تجاه هذه المعلومة.

أما فيما يخص مسألة لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع، نقول باختصار ان النبي (ص) كان مدركا لطبيعة القوى الاجتماعية في الجزيرة العربية، لكن الغريب أن الإسلاميين اليوم يشعرون بتوجس من علم الاجتماع كونه علما غربيا ماديا تأثر بالماركسية، لكن لماذا لا نعود إلى علم الاجتماع الإسلامي لا بمعنى أسلمة علم الاجتماع، ولكن بمعنى كيفية فهم الرسول (ص) للحقائق الاجتماعية في عصره وفي زمنه، وكيف تعامل معها... وكيف تعامل الفقه الإسلامي مع هذه القوى... فأصبح من الضرورة لجميع التيارات في عالمنا العربي ضرورة التنبه لهذا التشخيص الاجتماعي.

كيف يمكن أن نقرأ خطورة إعادة صوغ العالم على هوى أميركا، في هذه الفترة التي أسميتها في كتابك «العالم والعرب سنة 2000» بالغابة الإلكترونية؟

- الشاهد إنه من يملك القوة الحضارية اليوم يستطيع أن يؤثر في هذا العالم. وكلما ازداد امتلاك أي قوة دولية لقوة الحضارة، وقوة التكنولوجيا، تصبح فرصته أكبر في هذا التأثير. ونعوم تشومسكي الذي نعرفه جميعا، ونعرف مواقفه المعارضة، لكنه في الوقت نفسه يقول انه ليس لدي إيمان بمستقبل العالم، بسبب سيطرة النزعة الاستهلاكية الأميركية.. هذه إشكالية الغرب الحديث. ورجاء جارودي - أيضا - تساءل إلى أين ستصل هذه النزعة الاستهلاكية المادية؟ لكن الإشكالية في جانب منها تتمثل في السؤال الآتي: أين القوى البديلة القادرة فعليا في تطور التاريخ وتطور الحضارة أن تواجه القوى الغربية أو المادية أو الاستهلاكية في واقع الحياة لا مثاليات المبادئ ؟ وأريد أن أشير - أيضا - إلى الأزمة الروحية في اليابان، فقد ظهرت في اليابان أصولية أدت بهم إلى رش الغازات السامة في أحد أنفاق القطارات... وهذا دليل على خواء روحي. ومن دون شك فالغرب متقدم في الإنتاج الحضاري، وفي البحث العلمي، وفي التحاور، وفي النظام الديمقراطي والليبرالي، وهذا سر قوته رغم خواء الروح، لأن البدائل تتعايش، ويظل البديل كامنا في النظام الليبرالي، إلى أن يعجز البديل القائم، فيحتل مكانه البديل الآخر، وهكذا في دورة متكاملة.

أما عن غياب هذه البدائل كما كان عليه الحال في الاتحاد السوفياتي، الذي لم يكن يمتلك إلا بديلا واحدا، وحينما عجز هذا البديل انتهت التجربة. هذا سر الإعجاز الليبرالي، ولكن تطور الحضارة الحديثة ككل هو تطور مادي وتقني، في حين أن مجال القيم والإيمان غائب أو ضعيف.

وهذه إشكالية عالمية وإنسانية اليوم، فهذه القوى الحضارية المؤثرة، وهذا المنتدى الذي يضم في عضويته الأقوياء فقط يقوم في الأساس على الماديات، وأي أمة تريد أن تحافظ على مكانتها في العالم لابد أن توفر لنفسها شروط هذه العضوية، بغض النظر عن موضوع الإنقاذ الروحي. وإذا أردت اليوم أن تدخل معمعة الصراع من دون أن تخطف طائرات مدنية وتضرب بها في أبراج التجارة العالمية وغيرها، لابد أن تتخلى عن هذا الأسلوب الانتحاري اليائس، الذي لم يؤد إلى أية نتيجة أو فائدة، بل أدى إلى إلحاق الأضرار الكثيرة. أقول إذا أردت أن تؤثر تأثيرا واقعيا فعليا، فيجب أن تنظر إلى شروط الانضمام إلى منتدى الأقوياء.

ويدور الحديث اليوم عن السبع الكبار زائدا واحدا... أي روسيا إذا استجابت لشروط الانضمام إلى العضوية... وليس في هذا تنازلات عن الهوية، لأن اليابان عضوة على رغم خلافها مع أميركا، وكذلك فرنسا وأوروبا فالمسألة ليست تنازلا عن الهوية، بقدر ما هي توفير لمتطلبات القوة اللازمة للصراع في هذا العالم، وهي قوة العلم، وقوة الصناعة، وقوة التكنولوجيا في ظل النظام الديمقراطي، إضافة إلى اقتصاد السوق المحكوم بضوابط معينة.

فإذا توافرت هذه الإمكانات، واستطعت أن تدخل منتدى الأقوياء ستستطيع أن تؤثر... ولكن منتدى الأقوياء ليس وصفة سحرية، وليس مجمعا للروحانيين والمتصوفة، وبدورنا لا نستطيع إلغاء هذا التقدم المادي والحضاري القائم، ولكن هل تستطيع الإنسانية إنقاذ نفسها بروحانية جديدة، وهل يستطيع المسلمون تقديم هذا الحل؟ أو أيا من أصحاب الأديان الأخرى... وأريد أن أشير إلى أهمية النزعة الإيمانية، والإيمان بالله وبالروحانيات والقيم، أما تحويل الدين إلى وصفة طقسية وشعائرية ومذهبية ونصية معنية فهذا شيء آخر... وأنا أميز بين الإيمان الحقيقي وبين الدين كمجموعة من الأوامر والنواهي، فإذا استطاعت الإنسانية أن تعود إلى الإيمان، فهذا شيء جيد، وهو سؤال مفتوح ... وتحد أمام كل القوى في العالم.

الطرح السابق يقودنا إلى التساؤل من نحن، وما هويتنا، وكان لك رأي في مسألة الهوية تناولتها في كتابك «رؤية قرآنية» حين انتقدت بشدة ما كان يطل باستحياء بما يعرف بالهوية المتوسطية... هذا الاستحياء، أصبح الآن في صلب معجمنا التداولي... فهل تحدثنا عن خطورة اختزال الهوية في المكان فحسب؟ ومن نحن إذا؟

- فيما يختص بكتاب «رؤية قرآنية» أشرت في مقدمة طبعة الكتاب الثانية، إلى أنني لا أحاول ركوب الموجة الدينية، لمجرد الاقتراب من غرائز الجماهير... فأنا باحث أحاول أن أشير إلى الحقيقة... وكتاب «رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية» فيه إشارة إلى الآية الكريمة «غلبت الروم في أدنى الأرض» اذ أن التوجيه القرآني يتضمن تنبيه المسلمين إلى المتغيرات الدولية منذ فجر الإسلام... وهو ملمح قرآني يجب على المسلمين دراسته بموضوعية وبحدوده العلمية والتاريخية أيضا، من دون أن نتكلم عن فتح روما والقفز إلى هذه الأمور، هذا جانب.

وعن الجانب الآخر المختص بمسألة الهوية... فالهويات متداخلة بين البشر، وهناك الهوية الإنسانية العامة، بالإضافة إلى الهويات الحضارية، والقومية. وكون الإسلام رسالة عالمية لكل البشر فهذا اعتراف من الإسلام بأن البشر يمثلون هوية واحدة. والنداء القرآني عموما يتجه إلى «يا أيها الناس» ولم يقل يا أيها العرب مثلا، وأحيانا «يا أيها المؤمنون»، إذا هو يخاطب البشر جميعا، فهناك هوية إنسانية عامة، ولكن للأسف فإن المنزع العام في الهوية الغربية اليوم أنها تدعي النزعة الإنسانية، وتطبق هذه النزعة بشكل انتقائي، وتكيل بمكيالين مزدوجين مثل التعامل مع قضية فلسطين وقضايا أخرى كثيرة في العالم.

وعلينا في كل الأحوال ألا يكون لدينا وهم بالوصول إلى «مثالية كاملة ». فالعالم يتحرك بهذه الصورة .. الأمور دائما نسبية والمتاح أمامنا الانتقال بالتدريج إلى الأفضل غير المكتمل شيئا فشيئا. من يفقد القدرة على مثل هذا التدرج مرشح لأن يفقد كل شيء !!

هذا لا يعني أن نفقد تفاؤلنا. ولكن علينا أن نؤسسه على الواقع الصلب في عالمنا. التفاؤل حق مشروع للإنسان وأخطر ما يتهدده الآمال والوعود التي تفتقد مصداقية التحقق في واقع البشر ..

أعلنت أخيرا ولادة كائنات بشرية مستنسخة، وفي الوقت نفسه أصبحت طبول الحرب تقرع بتسارع كبير، ومنذ أحداث 11 سبتمبر / أيلول بدأت مقولات مثل صدام الحضارات تحتل الواجهة من جديد .. وأصبحت شخصيات من أمثال برنارد لويس ذات حظوة كبيرة .. وحتى محاولات التقارب والحوار بين الثقافات والحضارات بالكاد تمثل فرقعات صغيرة وسط هول ما يحدث وما سيحدث قريبا ..والبعض يتحدث عن سيناريوهات مرعبة، وتوقعات كثيرة في مجملها لا تبشر بأي خير .. فأين نحن وسط هذا العصف .. خاصة وأن الإملاءات في تزايد، وبالمقابل فإن الاستجابات تتحرك بوتيرة متسارعة على جميع الصعد.

- بمعيار التاريخ الطويل الممتد ما يحدث في عصرنا من حروب وأحداث لا يتعدى كونه « فرقعات صغيرة . الحدث الأكبر والأهم هو التحول الذي حدث قبل ثلاثة قرون عندما انتقل العالم من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث .. إلى حالة الحداثة بمعطياتها المعروفة في العقلانية والعلم التجريبي والليبرالية واقتصاد السوق .. ألخ.

مالم يستوعبه الوعي العربي العام مغزي هذا الانعطاف الجذري في تاريخ العالم، وما لم تتهيأ الأمة لمقتضياته، حسب خصوصيها كما فعلت الأمم الأخرى .. فإن «السيناريوهات المرعبة » ستتواصل في حياتنا بلا توقف .. ورغم هولها فستبقى مجرد تفاصيل قياسا بالتقصير في استيعاب ذلك التحول في حياة البشرية. هل سندخل العصر الحديث بشروطه العقلية والتقنية والتنظيمية والسياسية أم لا ؟ تلك هي المسألة فيما يتعدى جورج بوش وصدام حسين.

ما هي مشروعاتكم الجديدة؟

- من مشروعاتي محاولة وضع المشهد العالمي في خلاصات فكرية أساسية تتعدى هذا الركام الهائل من الكلام ومن التنظير .. إن استطعت. ومن مشروعاتي التنبيه إلى أنه لا مفر من ضرورة التمييز بين الإلهي والبشري في الدولة الإسلامية ذاتها.. التي أخطأ فكر النهضة العلماني عندما أنكرها .. ولكن سيخطئ دعاتها بدورهم إن أنكروا ضرورة ذلك التمييز





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً