فجأة تذكر الرئيس جورج بوش أن هناك مأساة فلسطينية قبل يوم من القمة الثلاثية الأميركية ـ البريطانية ـ الإسبانية وعشية التصويت على قرار ثانٍ في مجلس الأمن يتوقع في حال الموافقة عليه إعلان حرب على العراق.
من أين جاءت هذه «الرؤية» كما قال وكيف نزلت عليه؟ كيف تذكر فلسطين في وقت يواصل فيه ارييل شارون تنفيذ مجازره ضد المدنيين الفلسطينيين منذ أكثر من سنتين بدعم من واشنطن وتحديدا من الرئيس بوش الذي تربطه علاقات خاصة و«مميزة» مع الجنرال الإسرائيلي؟
بوش ربط «رؤيته» بتعيين رئيس للحكومة وهو منصب جديد وافق عليه الرئيس الفلسطيني بعد ضغوط أوروبية ـ أميركية. واشترط الرئيس الأميركي على ياسر عرفات مجموعة بنود كأساس لتنفيذ «الرؤية» في حدود العام 2005 تبدأ بتسمية محمود عباس (أبومازن) في المنصب الجديد وتنتهي بوقف الاستيطان في حال اتبعت السلطة السلوك السياسي الذي يرضي شارون واستراتيجيته التقويضية للكيان الفلسطيني.
تقول الإدارة الأميركية إن: هذا الاهتمام ليس جديدا ولا صلة له بمجرى الحوادث الدولية العامة التي تقودها واشنطن ضد مجموعة الأمم من أجل كسب موافقة مفروضة بالقوة لخوض حرب تدمير شاملة ضد العراق. وتقول الإدارة إن هذه «الرؤية» هي ترجمة سياسية لما ذكره بوش في خطاب (مبادرة) ألقاه في يونيو/ حزيران الماضي وقبل خمسة شهور من صدور القرار الدولي 1441 عن العراق.
الاهتمام الأميركي بالموضوع الفلسطيني ليس جديدا. هذا صحيح. والصحيح أيضا أن الانحياز الأميركي للجانب الإسرائيلي في الصراع ليس جديدا. وما يميز بوش عن غيره من رؤساء الولايات المتحدة أنه الأكثر انحيازا للدولة العبرية والأكثر تطرفا في كراهية الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. فبوش مثلا منذ وصوله إلى البيت الأبيض رفض استقبال عرفات في وقت التقى فيه شارون قرابة سبع مرات منذ توليه السلطة. وبوش مثلا أفرط في استخدام حق النقض (الفيتو) لتعطيل قرارات دولية تتعلق بإدانة «إسرائيل» في جوانب مدنية وإنسانية آخرها كان يتعلق بموضوع مجزرة جنين. وبوش مثلا عطل قرارات دولية لها صلة بإرسال قوات دولية أو قوات مراقبة دولية إلى المناطق الفلسطينية للإشراف على حماية المدنيين من العدوان الإسرائيلي. وبوش أيضا تراجع عن سلسلة قرارات واتفاقات وقعها الرئيس السابق بيل كلينتون وشجع شارون على الاستمرار في سياسته الهجومية (التقويضية) ضد ما كان يسمى بمناطق السلطة الفلسطينية.
السؤال من أين جاءت هذه «الرؤية» في وقت ينتظر العالم حصول كارثة جديدة ضد دولة عربية يتوقع أن تستفيد منها «إسرائيل» ويستغلها شارون لاستكمال مشروعه التقويضي ضد الفلسطينيين؟
يقال هناك نصائح بريطانية في هذا الشأن. فبريطانيا، على عكس أميركا، اتخذت مواقف نقدية ضد شارون واختلفت لندن مع واشنطن في شأن حكومة الليكود وسياسة التدمير الشامل التي اتبعتها. وبرزت بين لندن وتل أبيب سلسلة حملات إعلامية وسياسية كشفت عن وجود «رؤية عمالية» مغايرة لتلك التي اتبعها بوش منذ وصوله إلى البيت الأبيض.
النصائح البريطانية ليست كافية لتفسير «رؤية» بوش. فهي قديمة ولم تأتِ لندن بجديد حتى يقتنع بها رئيس متطرف ربط مصيره ومستقبله بالعامل الإسرائيلي في منطقة «الشرق الأوسط». لابد من وجود عوامل أميركية داخلية تحدثت عنها أخيرا بعض الصحف ووكالات الأنباء.
تقول تلك الروايات المنقولة إنه بدأت تظهر إرهاصات سياسية وتلميحات هنا وهناك عند بعض الأكاديميين والسياسيين وبعض أعضاء الكونغرس وقادة الحزب الديمقراطي ونوابه وبعض الأجنحة في الحزب الجمهوري تشير إلى «عامل إسرائيلي» وراء بوش وتحريضه ودفعه إلى الحرب على العراق. واضطر وزير الخارجية كولن باول إلى الدفاع عن نفسه وعن السياسة الأميركية ونفي أية صلة بين الاستراتيجية الهجومية في «الشرق الأوسط» وبين «العامل الإسرائيلي» الذي قيل إنه وراء سياسة التحريض على الحرب على العراق. حتى ان باول أكد مرارا أنه ليس هناك من طرف يملي شروطه وأوامره عليه أو على ديك تشيني أو كونداليزا رايس أو حتى الرئيس للقيام بهذا الأمر أو ذاك.
«رؤية» بوش جاءت للرد على هذه الأجواء التي بدأت تؤثر على صدقية الإدارة ليس فقط في العالم وإنما في الداخل الأميركي. وقراءة بوش الهزيلة للمأساة الفلسطينية أطلقت علنا للتذكير فقط وليس للتنفيذ. فالتنفيذ مؤجل والمعركة الآن ضد العراق... وغدا ضد فلسطين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 191 - السبت 15 مارس 2003م الموافق 11 محرم 1424هـ