هناك الكثيرون من المنظّرين الذين يناقشون أصل المسرح وبداياته في العالم العربي، ويربطون ذلك ببداية التعاطي الثقافي مع الغرب في مطلع ما يسمى بـ «عصر النهضة». وربما يكون هناك بعض الوجاهة في هذا الطرح، ولكن تبقى مشكلة المسرح العربي تراوح ما بين إشكال الجد والهزل، حتى غلب عليه الطابع التجاري والتهريجي، أسوة بأزمة صناعة السينما العربية عموما، والمصرية خصوصا. والمشكلة الكبرى تتعلق بما يتناوله المسرح العربي من قضايا: فإذا اقترب من الجد ابتعد عنه الجمهور، وإذا غاص في التهريج والسخف، زادت إيرادات شباك التذاكر.
ولكن هناك روافد أخرى لها علاقة نسب بعيد بالمسرح وإن لم تدرك هي ذلك، وهي المرتبطة بتلك التمثيليات البسيطة التي تنتشر في بعض البلدان الإسلامية التي تحيي ذكرى عاشوراء، ويلعب فيها التمثيل دورا في إعادة ما جرى أمام الجمهور. هذا الرافد المسرحي المجهول له جمهوره، وله بعده في التاريخ، وله أيضا قضاياه الخاصة.
من ناحية القضايا ارتبط هذا المسرح التمثيلي بقضية كربلاء أساسا، فهو يتناول تمثيل صور ومشاهد من واقعة الطف، وما جرى فيها من قتل وتمثيل بالجثث وهجوم العسكر الأموي على خيام أهل البيت، وسوق ما تبقى من الأسرة النبوية من نساء وأطفال سبايا إلى والي الكوفة أولا، ثم إلى دمشق عبر الصحراء. وربما تم تصوير ليلة الثالث عشر من المحرم، وهي الليلة التي دفنت فيها أجساد الشهداء بمقدم جماعة من بني أسد وإعانتهم الإمام علي بن الحسين (ع) في دفن قتلاه، كما كان يجري في منطقة السنابس حتى نهاية السبعينات.
منتجون لا أباطرة
إذن: فالقضايا جادة، تاريخية، ومرتبطة بالعقيدة، بل هي قمة الجد، وليس فيها إسفاف ولا ابتذال، والجمهور يتفاعل معها، على رغم بساطة الممثلين وبساطة الإخراج، وربما لا يكون هناك مخرِج بالمعنى المعروف للإخراج، إذ يسود نوع من العمل الجماعي كفريق، وتوفّر الأدوات والإمكانات والديكور والملابس «التاريخية»، وحتى الجمال والخيول، دون أن يكون هناك موازنات ضخمة ولا منتجون أباطرة.
ومن هذا المنطلق نرى الجمهور يتفاعل وينشدّ إلى التمثيل. أحدهم يروي ما شاهده خلال زيارته للعراق من تفاعل الجمهور، إلى درجة أن أحد المشاهدين البسطاء هجم على الرجل الذي يمثل دور قاتل الحسين وأراد ان يبطش به لولا ان تداركه أفراد من الجمهور. ومن السهل أن ترى البعض يبكي وهو يرى مشاهد حية من كربلاء تجري أمامه، حتى لو كان يدرك أنها مجرد تمثيل. وأكثر الفئات تأثرا بطبيعة الحال هي النساء. وهي عموما ظاهرة طبيعية نراها لدى الشعوب في الشرق والغرب، وهي تشاهد المسرحيات أو التمثيليات أو الأفلام الرومانسية أو أفلام الكوارث والحروب والمآسي. فلا يشذ جمهور «مسرح كربلاء» عن غيره، اللهم إلا بالبعد العقيدي، إذ تختلط المبادئ بالعواطف الجياشة التي تؤججها القناديل المستشهدة في كربلاء.
من اعماق التاريخ
انطلقت أول فعالية من هذا النوع في بغداد العام 861م، وفي البحرين الحديثة يرجح أن تكون انطلقت في نهاية الربع الأول من القرن الماضي (العشرين)، فالمسرح له ارتباط بالوضع السياسي عموما. وفي الفترة الأخيرة شهدت انتعاشا وتوسعا، وهناك مناطق اشتهرت بها مثل سترة وبني جمرة والمالكية. وتشهد هذه الفعاليات إقبالا جماهيريا كبيرا، ويحضرها أعداد كبيرة من الناس، الرجال في جانب، والنساء في جانب آخر، يأتون لمشاهدة العرض الحي. وعادة ما يعرض في ساحة كبيرة إذ يسهل ترتيب ساحة المعركة أو تصوير «الصحراء»، فغالبية المشاهد كما قلنا تتعرض للواقعة بين القتل والسبي، وربما اهتم بعضها بالحواريات بين شخصيات ذلك الحدث التاريخي الرهيب. طبعا هذه بذور أولية للمسرح، ليست على مستوى احترافي لأن اصحابها من الهواة ، ولكنها توصل الرسالة المطلوبة، وتصل إلى قلوب جمهورها بامتياز، وليس ادل على ذلك من مواقف الناس البسطاء بعد ذلك، من حيث الارتياح ممن مثل دور الشخصية المظلومة، والنفور ممن لعب دور الشخصية الشريرة، الذي لا يفلت صاحبها من غضب الجمهور، فتنهال عليه الحجارة من بعض المتفاعلين الغاضبين!
اين النقد ؟
عتابنا على الحركة النقدية وغفلتها عن هذا الرافد «المسرحي» البسيط، فحتى لو كان نُهيرا صغيرا لاستحق الاهتمام. ولكن لا غرابة، فقد أُهمل ذلك التراث الشعري الضخم في البحرين، فصيحا وعاميا، والممتد عبر القرون، والمجلجل في الصدور... مع ذلك، لم ينتبه له النقّاد الأفاضل... عسى ألا تطول الغفوة. وفيما تتواصل مناقشات وتنظيرات المهتمين بالمسرح، ويكتب الكثيرون عن أزمته من دون أن يلوح في الأفق نفق للخروج من معادلة أما التهريج وأما العبوس، يبقى المسرح «البلدي» البسيط مترجلا، يقوم بمهمته التي نذر نفسه لها: إيصال صوت كربلاء إلى القلوب
العدد 191 - السبت 15 مارس 2003م الموافق 11 محرم 1424هـ