يسهب عدد من الباحثين والدارسين في تناول المكان باعتباره جزءا لا يتجزأ من تكوين الإنسان النفسي... بل ويذهب عدد منهم إلى أن تشكُّل شخصيته انما يبدأ من طبيعة المكان... حتى ليكاد يشبهه في شيء منه. والمأتم باعتباره مكانا لم ينفصل البتة عن تلك الحقيقة... ففي ظل أجواء مشحونة بالعاطفة والحزن والحب في آن معا... يأخذ المأتم مساربه وحضوره وتأثيره في نفسية وروح المتوحد بطبيعتة... سواء على مستوى حضوره الآني... أم على مستوى وعيه بما يسرد وينشأ من انفعال يقترب من حالة الوجد في صورته المحزنة والمحرقة.
والمأتم بمعنى العزاء والمصيبة والمواساة... ويعني في الأصل مجتمع الناس عموما وقد غلب عليهم الحزن، وأصبحت الكلمة تطلق على اجتماع الناس للعزاء على مصاب أبي عبدالله الحسين (ع)...أو على الموضع الذي يجتمعون فيه.
من المتعارف عليه أن الشعائر الحسينية التي يكون المأتم في شكله المعاصر موضوعها لم تكن في الشكل والصورة المتعارف عليها في وقتنا الراهن... اذ اتخذت وانحصرت في الشعائر الرمزية التي عمل الزمن عمله في تطورها وتعدد صيغها وأشكالها.
إطلالة تاريخية
وتعود أقدم المؤشرات التاريخية على نشوء تلك الشعائر إلى ما كان يقوم به المناصرون لأهل البيت بالذهاب إلى كربلاء والتجمع حول قبر الحسين (ع) وخصوصا يوم العاشر من محرم من كل عام لإظهار الندم وطلب المغفرة لتقاعسهم عن نصرته في واقعة كربلاء. وبحسب المصادر التاريخية الموثقة... فإن المختار بن يوسف الثقفي الذي قاد حركة التوابين، ورفع شعار (يا لثارات الحسين) كان أول من أقام احتفالا تأبينيا في داره بالكوفة وكان ما قام به التوابون أول حركة مقاومة ضد الحكم الأموي مدفوعين بشعارهم يا لثارات الحسين .
أما الدينوري فقد اشار إلى مثل هذه الاحتفالات التي اقيمت يوم عاشوراء والتي جاءت على شكل ندب ونياحة على مقتل الإمام علي (ع) وعلى أبنائه من بعده، التي قام بها الشيعة الأوائل عند تجمعهم حول قبور الأئمة من أبناء علي (ع).
أما الشكل الشائع لعاشوراء على النحو المعروف في الوقت الحاضر (أي رواية سيرة الحسين في محافل شعبية) فتعود جذوره - على الأرجح - إلى القرن العاشر للهجرة السادس عشر للميلاد، عندما اعتلى الصفويون سدة الحكم في إيران، واتخذوا من التشيع مذهبا رسميا لدولتهم، وكان لهم دور في انتقالها الى الهند وأذربيجان التركية والأناضول وبعض مناطق سيبيريا... ومع الوقت تطورت هذه الشعائر بنوعيها... رواية سيرة الشهيد (ممسرحة في تجمعات شعبية حافلة)... تليها المواكب، وكانت حصيلة الدمج بين هذين النمطين في ايران ابان القرن الثامن عشر، ولادة ما يعرف بمسرح التعزية.
ذكر ياقوت الحموي وابن خلاكان في وفياته، أن الشاعر المعروف (الناشئ الأصغر) كان يعقد مجالس النياحة على الحسين بعد أن انتشر التشيع وخفت وطأة السلطات الحاكمة على العلويين... وقد روى الناشئ الأصغر قال: «كنت مع والدتي في سنة 246 هـ/ 860 م وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد بين الوراقين والصاغة (ببغداد) وهو غاص بالناس وإذا برجل قد وافى وعليه مرقعة وفي سده سطحية وركوة ومعه عكاز وهو شعث فسلم... ثم قال: اتعرفون لي أحمد النائح؟ قالوا: ها هو جالس... فقال: رأيت مولاتنا فاطمة الزهراء (ع) في النوم فقالت امض إلى بغداد واطلبه وقل له: نح على ابني شعر الناشئ الذي يقول فيه:
بني أحمد قلبي لكم يتقطع بمثل مصابي فيكم ليس يسمع
وكان الناشئ حاضرا فلطم لطما عظيما على وجهه وتبعه المزوق والناس كلهم... وكان أشد الناس في ذلك الناشئ ثم المزوق... ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم إلى أن صلى الناس الظهر وتقوض المجلس».
المآتم في البحرين... النشأة والتطور
عرفت البحرين إقامة مآتم العزاء تعبيرا عن ولائهم وحبهم لآل البيت (ع) منذ زمن بعيد... بحيث اتخذ شيعة البحرين بعض المساجد والبيوتات أماكن للتعزية... ولا تخلو قرية من قرى المملكة من مأتم... وإن حدث ذلك يأخذ المسجد على عاتقه القيام بمهمة المأتم اضافة الى كونه مكانا للعبادة.
ولقد مرت نشأة المآتم كأبنية واماكن تخصص لهذا الغرض بعدد من الأطوار والمراحل... عززها قيام الوقف لعدد منها بحيث أصبح ريع الوقف رافدا وضامنا لاستمرار قيام المأتم بمهامه ودوره.
المأتم بوصفه نافذة على الوعي
لم يقتصر دور المأتم على إقامة مراسيم العزاء تعبيرا عن الحب والولاء لآل البيت عليهم السلام... بل أخذ دوره يتمدد باتجاه تذكير الأمة بقضاياها واشكالاتها الحاضرة... باعتباره جامعا وعاملا رئيسيا من عوامل الوحدة من جهة... واستلهام مخارج ورؤى تعمل عملها في التقدم باللحظة الحاضرة مراحل عبر التطلع الى واقع أكثر عافية على مستوى السياسة والاجتماع والأخلاق والتربية... ولعل تعدد الوسائط الحديثة كان لها الدور الأكبر في الانتقال برسالة المأتم من كونه مساحة أو منطقة ينحصر فيها السرد والعاطفة... إلى مساحة تبحث عن آفاق رحبة على مستوى أداء السرد ذاته... بالانفتاح الواعي على ثقافة الآخر وقراءته والدخول في حوار منهجي معه... اضافة إلى اعادة استلهام قيم وعبر من السيرة ذاتها بعد أن ظلت مكرورة .
كما أتاح المأتم وعبر بقية مراسيم العزاء فرصة كبيرة لإعادة صوغ الكلمة التي تتصدر مواكب العزاء الحسيني بخروج أجيال وأصوات شابة قدمت مشروعا يظل هو الأنجح على مستوى منطقة الخليج فيما يتعلق بالنصوص التي يتم خلع عدد من (الأطوار) الألحان عليها ما يكسبها حالة من العمق ممزوجة بالشجن. وهو أمر ظل شبه منعدم ولسنوات طويلة... تكشفت محاولة التغيير والتطوير فيها مع نهاية سبعينيات القرن الماضي لتصل حالا من النضج مع منتصف الثمانينات من ذات القرن
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 188 - الأربعاء 12 مارس 2003م الموافق 08 محرم 1424هـ