العدد 188 - الأربعاء 12 مارس 2003م الموافق 08 محرم 1424هـ

بائع المرايا

قصة قصيرة

لألأها الطل

تشدو والشدو له ظل

والظل يمد المنقار لشمس الصحراء

لغة ليس يفك طلاسمها

إلا الضالع بالأضواء

والظل لغات خرساء

وأنا في هذا الساعة بوح أخرس

فوق مساحات خرساء

مظفر النواب

فيصل هيات

قلة من بين أهالي القرية، يقرون أن بائع المرايا الذي ابتاع دكانا قبل عام، خدعنا، وتميل الغالبية إلى اعتباره نبيا من السماء أو قديسا زرعته الأقدار في دربنا.

قبل عام، جاءنا من المجهول، ابتاع دكانا للمرايا، وأصبحت قريتنا، بيته وخبزه، جاءنا ببدعة من نسج خياله، وصدَّقه الناس.

قال وهو يرتب بضاعته في الدكان قبل عام، فيما أطفال القرية وبعض النسوة ينظرون إليه بإعجاب ودهشة:

ـ مراياكم القديمة حطموها، لم تخلق وجوهكم لينالها التشويه أو القبح، أنا أعطيكم الجمال، أهبه إليكم، كما تهب السماء عطاياها.

قسمت كلماته الناس أحزابا وفرقا، بعضهم صدَّقه وأقسم باتباع ما يقول، فئة مالت إلى التريث، ونخبة منهم كذبوه، ونعتوه بـ «الدَّجال»، لكن كلماته بقت تحوم في أرجاء قريتنا لفترة ليست وجيزة، كسحابة حبلى بالوهم.

لعنة المرايا

في الشهرين التاليين لقدومه، حطم صغار الناس مراياهم، واتبعوا نبوءته، قالوا وهم غير مصدقين أن عهد المرايا القديمة قبر في غياهب النسيان:

ـ لقد سئمنا قبح وجهونا المزروع في تلك المرايا، ملعونة أيامها يا رجال!

لا يولد معظم الناس ليتحلوا بالصبر، إلا عبدالله ونفر قليل من صفوة أبناء القرية، أشاحوا بوجوههم أمام إغراء المرايا الجديدة، وقفوا في الصف الآخر مؤثرين حكمة التريث على نقمة الاستعجال.

قال لهم عبدالله وهم لاهون في لعبة تحطيم المرايا:

ـ العجلة من الشيطان، انتظروا قليلا، تريثوا، فمن جاءكم من المجهول، قد لا يحمل بين يديه الامل الذي تنشدون، واستعينوا بالصبر يا رجال.

التفت إليه رجل تجاوز الأربعين، قال في غضب وهو يشير إلى جرح قديم توسَّد خده:

ـ مما تظن زرعت تلك العلامة على وجهي؟ لن تصدق أبدا!! إنه الملعون بائع المرايا القديمة، العمر يمضي بنا يا رجل ونحن نبحث عن أنفسنا في قلب مرايا كاذبة حتى جاءنا هذا النبي، هل نحارب أم نتبع من وهبنا الجمال؟ أجبني؟

ـ هذا ما يحلم به الغريب بائع المرايا، أن يتزعمنا بخلق الفرقة بيننا، من قال انكم نعمتم بعد بالجمال؟ أليس الجمال منحة من السماء، هل جاءنا هذا الرجل من السماء أم من المجهول؟

رمى الرجل من يمناه لوح خشبي كان يحطم به ما تبقى من زجاج:

ـ ماذا تريدون منا؟ هل جريمة هذا الرجل أنه جاءنا من الغيب؟ أليست مراياه أصدق من كل المرايا التي عرفناها في حياتنا البائسة؟

أجابه عبدالله متمسكا بموقفه المتشدد:

ـ السماء وحدها التي تهب الناس عطاياه من دون سبب، ملك الملوك إذا وهب فلا تسألن عن السبب؟ هل كفرتم بالله يا رجال؟ هل تدفعكم شهوات أنفسكم إلى بيع ضمائركم للشيطان؟ ما الذي غيَّرته فيكم مراياه الكاذبة؟

قذف الرجل الغاضب عبدالله بلوح زجاج حاد، رماه كرمح على هدف قريب، سهل، فأصابه في الرأس.

ذلك اللوح الزجاجي الموصوم بالغدر، أدخل عبدالله في غيبوبة استمرت أشهرا بعد أن نزف بغزارة. لطف السماء أنقذه من موت محتوم.

لم يجرم السواد الأعظم من الناس الرجل، واعتبروا فعلته وحيا منزلا من قلب المرايا الجديدة، قالوا ان مخلوقا ليس بوسعه اختيار قدره، كيف ومتى يولد؟! وكيف ومتى يموت؟!

أما بائع المرايا، فكان ينظر إلى الناس بصمت مهيب، لم ينبس ببنت شفة. عيناه كانتا لسانه ومنظاره إلى عالم صغير بدأت خيوطه تتجمع في راحة يمناه.

الخديعة

طوت الأيام صفحة عام كامل، انشق فيها الناس على عبدالله بعد إفاقته من الغيبوبة، وباتوا رعايا بائع المرايا.

في مجلسهم المسائي، حيث يلتقي الناس ليتسامروا ويفضوا ما في نفوسهم، كان عبدالله حاضرا بقامته المديدة ونظراته الثاقبة، قال لهم:

ـ عندما يبيض قرص الشمس، تنكشف حقيقة المعادن النفيسة، إن غدا لناظره لقريب، صدقوا ما أقول، غدا أو ربما في الأيام المقبلة ستعري الشمس نبيكم المزحوم، وتنقلب صوركم الجميلة في مراياكم الزائفة إلى قبح، عندها ستلموسون بأبصاركم ما عميت عنه بصيرتكم.

أنهى كلماته المهيبة وغادر مجلسهم في هدوء، تاركا خلفه عاصفة من الأسئلة، والتأويلات، والغضب.

في ذلك المجلس المسكون بصخب الأسئلة، كان بائع المرايا حاضرا، صامتا كعادته، في نظراته يسكن السر، وفي كلماته سحر كاذب، قال لهم عندما استفتوه في كلمات عبدالله الغامضة:

ـ ماذا تنتظرون من رجل يسألكم أن تعفوا عن منابع الجمال في نفوسكم، وتعودوا عنها إلى مرايا تخسف بوجوهكم الجميلة؟ لكن هل خذلتكم مراياي منذ دخلت بيوتكم؟

خلع الليل عباءته بعد ساعات من الصخب والأسئلة، وافترشت شمس الصباح أشعتها على قريتنا، تغلغلت في كل الزوايا.

عندما أفاق الناس من سباتهم، كان قرص الشمس اللاهب يقود ثورة حامية على مراياهم، لم يصدقوا ما يمكن للشمس الغاضبة أن تصنع في منبع جمالهم المزعوم. تصدَّعت المرايا كأراض لم تذق طعم الماء لسنوات طويلة.

ضج الناس، علت أصواتهم، ثاروا، بكوا، لم يكن كل ذلك كافيا لإدارة عجلة الزمن إلى الخلف. وحده بائع المرايا ظل في دكائه ينظر اليهم متشفيا وقد تملكتهم الحسرة والندم.

قال لهم:

- لقد منحتكم الجمال، فماذا منحتموني بالمقابل؟

لم يكن لدى الناس أية إجابة.

أما عبدالله، فكان ثابتا يستمع إلى شكوى الناس عن مراياهم المثلومة.

كاتب من أسرة تحرير «الوسط





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً