العدد 188 - الأربعاء 12 مارس 2003م الموافق 08 محرم 1424هـ

الحنطة تشق خدرها

حين مت... كانت الأشياء تحيط بي كضفيرة معصفرة، يدايا هلاميتان، ورقبتي تميل إلى اليمين قليلا. أمي كانت تمسح جبيني، ثم مدت يدها وأسبلت عينيّ اللتين كانتا مفتوحتين على آخرهما، إذ تتابعان شعاع شمس سقط من سقف الغرفة على أرضها، كانت نظراتي قد استقرت عليه. ذرات التراب وعوالق الهواء تشكل مدنا ملونة في داخل المدن. الناس يبيعون ويشترون، يرقصون ويتآكلون كالأسماك... كنت أتابعها لآخر نقطة... وحركيتها الدائبة كانت تسحب الحركة عن عروقي نبضة بنبضة حتى خيم على جسدي سكون.

حين مت... كانت نشرة الأخبار يبثها المذيع... كنت أسمع شخير اختناق الآباء بمشنقة الأبناء... وأرى كالكوابيس رقابا تمتد في حبال غير مرئية... كانت تفتح ذهولا ورهبة... لعنة الكراسي تتكسر فوق الرقاب تلو الرقاب. لعنة تمتد بلسان من نار يجذب الفراشات اللهب فتغادر شرانقها بحثا عن وهج حارق... المذيعون متصلبو الرقاب والأنفاس ثابتة أبصارهم خوفا من رفة عين تفسر ضدهم وهم يصفون اللعنة الأزلية... كأن كليبا مازال دمه حارا ومازالت القبيلة تطلب الثأر شاهرة سيوفها والنار تلد النار، والنصال فوق النصال والوهج المحرق يحيط باللعنة كسيف يماني... وعلى ذكر السيف اليماني لاح سيف بن ذي يزن والنعمان بن المنذر وأيام السعد وأيام النحس... ومازالت الواوات تتوالد نحسا يلد نحسا...

قبل أن أموت كنت أكتب رواية جميلة. أعيش أحداثها. يخرج لي الرجال والنساء معا نأكل ونشرب ونحكي الحكايات الكثيرة، حكاية تلد أخرى، قبيل صلاة العشاء جمعتهم أدخلتهم درج المكتب، ضجوا وتقافزوا. لكني تركتهم وأتممت سنّة العشاء والشفع والوتر... عندما انتهيت هجموا عليّ جروا غطاء صلاتي ومزقوا سجادتي... وقفت وسطهم مذهولة وهم يتحدثون جميعا بان واحد كنت مشتتة بينهم أحاول أن أرتب الأزمان والأدوار ولكنهم يصرون على الظهور جميعا باللحظة ذاتها أو أنا أحاول أن أضع لهم الأدوار كأدوار الحروف في ماكنة صف قديمة... يغضبون ويتعالى شخيرهم... شحاذة أنا أمد يدي لهم استعطفهم واسترضيهم، لا من يسمع تبحلق بي عيون بلهاء حتى يجف قلمي ويسقط.

قبل أن أرقد الرقدة الأخيرة كنت أحاول تذكر قصيدة لكنها كانت تلوح لي كطائر سمان يخشى الصياد ثم تنطلق. أتذكر أنها تقول:

حين مت

بنفسي وبشجن البنفسج في دمي

شيعت جنازتي

واقتفت رفاة الروح

مثقلة بالشيح وبالكدر

كل الحراش اليتيمة

بكتني أحجار الرصيف

ووقفت الشوارع إجلالا لي

واختبلت صبايا الأشجار

نفضت أوراقها قبل الخريف

ورثاني صخب الأزقة القديمة...

إن كسرت وزنا أو ضيعت شطرا فلي عذر السويعات الأخيرة، قبل أن أرقد وتصبح يدايا هلاميتين... كنت أشعر أن هناك أعداء كثيرين لهم أذرعة أخطبوطية تمتد في كل مكان وزمان... من خرم الإبرة أو من صوت أعراس أو من لقمة الخبز... هذه الأيدي تمتد لتعصر فؤادي حتى آخر قطرة... عندما تحاول القطرة الأخيرة الخروج تتعثر بالعروق الجافة... وتدق الدقة الأخيرة كدقات ساعة جدتي المعلقة على الجدار الطيني والتي كانت جدتي تضبطها عند الغروب على الثانية عشرة.

لي خطى كانت تسير بكل الاتجاهات... حتى ثقلت رجلاي وضاعت الخطى واحدة تلو الأخرى عندما غاصت الأقدام في رمال الصحراء لم أستطع أن أجرهما حتى بركت كبعير بجنبهما وانتظرت القمر طويلا حتى ذهب ليل وعاد ليل ولم يعد القمر.

ها أنذا ممدة هنا. أبكي أياما لا تبكيني. وعيناني مازالتا تغمضان على خط ممتد من السقف إلى الأرض تتحرك بداخله مدن ملونة أحس بها شقشقة سنبلة قادمة، تشق وسط صدري سنبلة تحمل مئة حبة كل حبة ستلد مئات السنابل. أحلم بوطن تتضوع منه رائحة الطين المعطر بماء المطر وله لون الحنطة ويتمازج به الشيح والقداح أحلم بحب يملأ الأرض والطرقات وكراسي تغادرها لعنتها وفراشات تحيك خيوط الحرير وتترك اللهب.

قاصة سعودية





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً