يتضح للمراقبين أن ثمة نجاحات معتبرة تتحقق في مباحثات كينيا «الثنائية» بين نظام الانقاذ وحركة قرنق. فقد شارفا على استكمال البحث في ملفات اقتسام السلطة والثروة وصولا إلى أن يصبح قرنق «نائبا أول» للرئيس عمر البشير ولكنه «موازيا» له وليس رجلا ثانيا. وفي حال غياب الرئيس لا يصبح قرنق رئيسا بما يقتضيه العرف الدستوري ولكنه يصبح «رئيسا مشاركا» للرجل الثاني في النظام وهو النائب الأول الحالي «علي عثمان محمد طه».
عبقرية الاقتسام
تجسد هذه الصيغة - دون أي سابقة دستورية في العالم ـ استمرارا لنهج أسميه عبقرية اقتسام السلطات في السودان. وقد بدأ هذا النهج المندوب السامي البريطاني في مصر اللورد كرومر العام 1883 حين أراد احتلال السودان وتصفية الحكم المهدوي ولكن واجهته حتمية مشاركة مصر فكيف يخضع بلد واحد لسيادتين، بريطانية ومصرية؟!
تفتقت عبقرية كرومر عن مفهومين: (الحكم الثنائي) Condominium و(الدولة المولدة) Hybrid State.
وحين طلب منه تفسير فقهي دستوري لذلك أو الرجوع إلى سوابق محددة ذكر أن أصل المعضلة يكمن في وجود جبال يصعب اجتيازها، فلابد من البحث عن «ممر». وقد عاش السوداني خمسين عاما وهو يعبر سياسيا بذات «الممر الثنائي».
مرة أخرى حالت الموانع الجبلية دون إيجاد ممر دستوري سهل ومعروف لتقنين العلاقة بين طرفي «التفاوض الثنائي» - الانقاذ وقرنق - فكلاهما نقيض للآخر، وكلاهما محكوم عليه أميركيا بالتفاوض وتحت طائلة الإنذارات المتكررة. ومحكوم عليه حتى بالمدى الزمني الذي يجب ألا يتجاوز ابريل/نيسان من هذا العام. فاستباق الزمن والأجندة، يعد تلكؤ لم يدم طويلا، إذ أضاف قرنق إلى خريطة الجنوب ثلاث مناطق في الشمال هي (جبال النوبا) و(الانقسنا) و(آبيى)، فيما أضاف الانقاذ إلى ثقله السياسي الذاتي ثقل جامعة الدول العربية التي عينت ممثلة عنها لشئون السودان «نادية مكرم عبيد» التي اجتهدت ليلتفت العرب إلى شئون السودان ولكن في إطار مباحثات كينيا «الايغاد» فلما حاول بعضهم إحياء مظلة المبادرة المصرية الليبية كإطار عربي يوازي «الايغاد» الإفريقية صاح «الديك» في أميركا وزمجر «الفيل» - الجمهوريون والديمقراطيون معا - فآوى الجميع إلى كوخ «الايغاد» في نيروبي ثم اكتشفوا هذا «الممر».
القوافل الزاحفة والممر الضيق
ما خطه «كرومر» استمر خمسين عاما، وحال ذلك الممر (الحكم الثنائي) من دون مرور أية قافلة فرنسية أو إيطالية من جنوب السودان أو شرقه أو غربه. ولكن إلى أي مدى سيبقى ممر الانقاذ وقرنق وقفا عليهما وعلى ثنائيتهما؟!
نعود الآن إلى حسابات القوافل السياسية السودانية الزاحفة.
أولا: قافلة التجمع الوطني الديمقراطي:
هذه القافلة متمركزة الآن سياسيا وعسكريا في العاصمة الارتيرية «أسمرا»، يقودها سياسيا محمد عثمان الميرغني ولكن قاعدتها العسكرية المكونة من 9 آلاف مقاتل تابعة لقرنق بقيادة «باقان آموم» فهي ذراع عسكري لقرنق ولكن ليس في الجنوب وإنما في الجبهة الشرقية للسودان، ولا تعمل تحت مظلة «الحركة الشعبية لتحرير السودان» وإنما تحت مظلة «التجمع الوطني الديمقراطي». والقائد الجنوبي «باقان آموم» هو الأمين العام للتجمع.
بذلك تصبح الجبهة الشرقية المستندة إلى ارتيريا هي المنطقة «الخامسة» لنفوذ قرنق، باعتبار ان الأولى هي «الجنوب» نفسه، والثانية «جبال النوبا» والثالثة «جبال الانقسنا» والرابعة «آبيى».
غير ان «واجهة» هذه القافلة شمالية وهو زعيم طائفة الختمية ورئيس حزب الاتحاد الديمقراطي «الميرغني»، أما قاعدتها العسكرية فهي جنوبية تابعة لقرنق، غير ان قائدها التابع لقرنق وهو «باقان آموم» وهو في الوقت ذاته الأمين العام للتجمع، ومرتكزها الجغرافي هو «ارتيريا» المرتبطة بشرق السودان وشماله.
الخطورة في أهداف هذه القافلة هي أن أجندتها تختلف عن مفاوضات كينيا للمناصفة الثنائية، بمعنى أن هدفها ليس اقتسام السلطة مع الانقاذ ولا المطالبة بمكاسب «اقليمية» كحال الجنوب والنوبا والانقسنا وآبيي. ولا الدخول في سيناريو نائب أول أو ثاني أو ثالث لرئيس الجمهورية.
إن أهداف هذه القافلة ترتبط بما أقر من برنامج وطني عن «القضايا المصيرية»، لكن السودان في مؤتمر أسمرا المنعقد في الفترة من 15 إلى 23 يونيو/حزيران 1995 وتتضمن ما لا يرد في مباحثات كينيا عن التحول الديمقراطي وفصل الدين عن الدولة والتعددية و«مساءلة» نظام الانقاذ مع «تفكيك» مؤسسات الانقاذ. وغاية ما يمكن أن يساوم عليه التجمع هو تشكيل حكومة «انتقالية مؤقته» مهمتها فقط إجراء الانتخابات العامة. وتأتي أوضح مقرراته هذه في مؤتمر طرابلس بتاريخ 1 أغسطس/آب 1999.
طبعا حين تحاول هذه القافلة اختراق الممر الثنائي الضيق الآن فإن أكثر الرجال ارتياحا هما الرئيس «اسياس افورقي» والنائب الأول القادم جون قرنق. فأين سيذهب نظام الانقاذ؟!.
ثانيا: قافلة التجمع والضوء الأخضر الأميركي
خطورة هذه القافلة عدا عن ارتكازها في ارتيريا انها نالت الضوء الاخضر الاميركي لاختراق الممر الثنائي. ففي مطلع يناير/كانون الثاني 2003 استضافت الخارجية الاميركية «المكتب التنفيذي» للتجمع الوطني، وقد تكوّن وفد التجمع بقيادة «باقان آموم» - الأمين العام وحاتم السر - امين الاعلام. وشريف حرير - امين التنظيم والادارة. و«د. برنابا» 0 امين الشئون الخارجية.
وادرى ان الطرفين «اميركا» و«التجمع» يعدان لعمل مشترك كبير ستظهر آثاره حتما في ابريل المقبل.
استطيع القول انه سيكون عمل عسكري واسع لاسقاط الانقاذ في حال لم يتم التوصل بشكل قطعي وحاسم إلى اتفاق نهائي في كينيا وهذا ما يقلق النظام السوداني ويدفعه إلى الرضوخ في كينيا.
في حال ان تنجح مفاوضات كينيا وتعلن نتائجها في مارس/اذار الحالي اذ ستوفر الوسائل كافة ليصبح التجمع هو الطرف الثالث القادم. وقتها ستقفز الكرة إلى ملعب اسياس افورقي غير ان قومي يجهلون! قومي في السودان وقومي على مدى وطني العربي. والجاهل دوما عدو نفسه.
ثالثا: الرأسان في الداخل المصطخب واعنى بهما رأس الصادق المهدي الذي جمع اخيرا بين الامانة الدينية للانصار المهدويين والرئاسة السياسية لحزب الامة. ورأس الشيخ «حسن الترابي» زعيم المؤتمر الوطني الشعبي». فالرجلان يضيق الممر الثنائي أو بالاحرى هو مغلق تماما من دون مرور قافلتيهما، ليس بحكم ضالة قواعدهما الشعبية فهما يملكان اكثر مما يملكه التجمع الوطني الديمقراطي ولكن بحكم انهما لا يملكان الضوء الاخضر الاميركي الذي يملكه التجمع الآن: فأميركا متحفظة جدا على المهدي، ومعادية جدا للترابي. ويكاد ان يكون هذا هو موقفها في منزلة بين العداء والتحفظ تجاه الميرغني نفسه (رئيس التجمع) ولكنها ساكتة عنه طالما اسلم أمره لقرنق. وطالما ان مصر التي يواليها الميرغني تقليديا مكتفية بمهمة نادية مكرم عبيد وليس مطلوب منها عمليا اكثر من توفير «دعم عربي» لاتفاقات كينيا.
ميزة المهدي انه يجيد وضع السيناريوهات والمشروعات والخطط ولكن مشكلته انه لا يعرف كيف يؤديها، وذلك منذ ان قرر المصالحة مع نظام الانقاذ في اجتماع جيبوتي بتاريخ 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1999 ثم عودته إلى السودان في ابريل 2000 بعد انسحاب حزبه من التجمع في اسمرا، فبقى يقدم رجلا سياسيا باتجاه النظام ثم يتراجع برجل اخرى كلامية او فلسفية وهذا شأنه حتى اليوم إذ يشغل نفسه بدراسته الجديدة وعنوانها «التعاهد الوطني»، إذ يريد ان يحتوى كل الاطراف، سودانيا واقليميا ودوليا.
قد تولى المهدي الوزارة مرتين: الاولى من يوليو/تموز 1966 وإلى مايو/آيار 1967، والثانية من ابريل 1986 وإلى يونيو 1989، وطرح اكثر من سيناريو للاوضاع الداخلية المعقدة والعلاقات الخارجية الاكثر تعقيدا ولكنه ظل يراوح في مكانه حتى انتهى به الامر الآن إلى انقسام داخل حزبه. فالصادق المهدي لا يستطيع ان يتصدى لما هو مطروح اميركيا في الساحة السودانية ولا ان «يندرج» فيه وليس بقادر على ان يكون «متفرجا». فهو رجل كل الادوار ولكن بلا دور. فهو مرتبك في ذاته ومربك للنظام في حين ان اوضاع البلاد تتطلب تحديد المواقف لمعرفة كيفية عبور هذا الممر الضيق.
اما الشيخ حسن الترابي فمنذ اعتقاله بتاريخ 22 فبراير/شباط 2001 وعلى مدى عامين إلى شهرنا هذا من العام 2000 بذريعة توقيع حزبه مذكرة تفاهم مع حركة قرنق في جنيف بتاريخ 19 فبراير 2001 فانه لم يترفق لا بنفسه ولا بحزبه ولا بالنظام ولا بالوطن ومشكلاته.
هل من طريق رابع؟
اقصد بموازاة الانقاذ، وحركة قرنق، والتجمع الوطني.
واقصد بما يفترض ان يملأ فراغا سياسيا ومنهجيا كان يجب ان يملأه «عقلاء» الانقاذ و«المهدي» و«الترابي» وعقلاء الاتحادي الديمقراطي.
واقصد بما ينفتح معه بالضرورة الممر الثنائي الضيق الذي تحشر فيه البلاد الآن.
فان لم نتوافق ونتفق فأقله وأقله وأقله الآن ان نشترط جميعا على انفسنا وعلى اميركا تكوين مجلس دستوري جامع يماثل في سلطاته مجالس «الشيوخ» تاركين قضايا التمثيل النيابي لتقديرات الديمقراطية المقبلة وانتخاباتها كيفما يتم الاتفاق عليها لاحقا.
مجلس شيوخ يمثل «القوى الرئيسية» في البلاد تبعا للوفاق بينها والتفاهم ليكون «مرجعية» قادرة على توسيع الممر الثنائي الضيق وتجنيب السودان مخاطر قادمة، لا يعيها حتى الاميركيون وهم في غمرة النشوة في كينيا.
سياسي وكاتب سوداني
العدد 186 - الإثنين 10 مارس 2003م الموافق 06 محرم 1424هـ