الفرق بين الحلول الاستراتيجية والحلول الترقيعية هي ان الاولى تتطلب جهدا عقليا اكبر من الثانية، بينما تتطلب الثانية اموالا اكثر لكنها لا تعطي أية نتيجة بمجرد انتهاء المصدر المالي... والبحرين بحاجة لخطة استراتيجية شاملة للنهوض بالاقتصاد الوطني. وهذه الخطة تتطلب تحديد الاهداف (وليس الاحلام غير الواقعية) التي نود الوصول اليها... فهل نود منافسة دبي في كل ما تقوم به بعد ان نافستنا في كل ما نقوم به (على اساس المنافسة الشريفة)؟ ام هل نود اتباع الانموذج السنغافوري بكل ما يتطلبه ذلك الانموذج من ضوابط صارمة؟ ام هل نود ان نخلق انموذجا آخر نتبعه ونقدمه لغيرنا؟
على اي حال من الاحوال، فإن البحرين لها خصوصيتها، ولا يمكن ادارتها كما تدار الشئون في دبي التي تنحو نحو الادارة التجارية كما هو يدار الحي المالي لمدينة لندن التي تتعامل معه الحكومة البريطانية كما تتعامل مع شركة. بل ان بلدية الحي المالي في لندن يطلق عليها (CORPORATION) ومعناه مقارب للشركة التجارية الخاضعة للقطاع العام. ولكن الحي التجاري اللندني يحتوي على قرابة خمسة آلاف مواطن بينما يستخدمه نصف مليون انسان من بريطانيا ومن كل انحاء العالم خلال النهار. ولذلك فان الشركات لها صوت في انتخاب العمدة وتحديد سياسات الحي المالي.
وكذلك الحال مع دبي، فإن ادارتها اشبه بالحي المالي في لندن مع اختلافات في التوعية لان الحي المالي اللندني هو احد ثلاثة مراكز في العالم تحتوي على كل انواع البورصات والمصارف والاسهم المتداولة في مختلف المجالات.
ولكن ربما ان الافضل لنا كأنموذج هو سنغافورة التي لا تملك أية ثروات طبيعة وليس لديها غير شعبها المدرب تدريبا فائقا، ولديها ادارة حكومية تعادل نصف ما لدينا، ولكن البيروقراطية السنغافورية تختلف كثيرا عما يمكننا ان نحلم به. فالوزير والمدير السنغافوري تخصص له مخصصات مالية عالية ويمنع من القيام باي عمل تجاري ما دام يزاول عمله الحكومي. بل ان اي وزير او مدير يثبت انه تسلّم دولارا واحدا فوق ما هو مخصص له فان له الويل والسجن والعقاب.
فوق كل ذلك فان البيروقراطية تعمل كفريق واحد وليس كعدة امبراطوريات وكل وزير امبراطور يتصرف بامبراطوريته كما يشاء من دون معرفة بتوجه سياسي واحد وداعم للبرامج الوطنية العليا (غير الموجودة). فالتوجيه السياسي يجب ان يوجه النشاط الاداري للدولة وليس العكس. واي توجيه سياسي لا يمكن ان يصدر عن تفكير متقطع لا يهتم إلا بجزئية واحدة فقط. ومثال ذلك الخصخصة وانهاء الاحتكار في قطاعات مهمة ... فاذا كانت الخصخصة ضرورة حياتية لنا فان علينا ان نعلم ان هناك عواقب جانبية لابد من الالتفات إليها. وعلى الحكومة ان تدخل في برامج لمساعدة الشركات في اعادة تدريب ومساعدة الذين سيتم تسريحهم كشرط اساسي لانهاء الاحتكار وفتح مجال المنافسة.
كما ان هذا يجب ان يرتبط بخطة شاملة للتربية والتدريب. فالذين توفقوا للحصول على البرامج التدريبية لشركة بابكو في الخمسينات والستينات هم من افضل الطاقات. وكذلك الذين وفقوا للحصول على البرامج التدريبية لشركتي بتلكو والبا في السبعينات والثمانينات هم من افضل الطاقات. والذين تدربوا في التسعينات ويتدربون حاليا في القطاع المصرفي هم من افضل ما لدينا من خبرات.وفي كل هذه النماذج الناجحة نلاحظ ان هناك شراكة حقيقية بين الحكومة والقطاع الخاص، وان المواطن هو المركز وهو الهدف في العملية التنموية.
ولكننا بدأنا نفقد كثيرا من تلك المميزات التدريبية الفائقة، وازداد عدد الشباب العاطلين الذين قدّرتهم وزارة العمل اخيرا بـ 27 الفا، في اول اعتراف شجاع للوزارة عن حجم البطالة. هؤلاء الالاف هم قنبلة موقوتة ستنفجر كما انفجرت في الماضي ما لم يقتنع المتضررون بان هناك املا لهم في المستقبل.
وهناك الالاف الاخرى من المواطنين الذين يحصلون على معاشات لا تكفيهم حياة اسبوع واحد في البحرين. ففي الوقت الذي ازدادت فيه كلفة المعيشة، واصبح كل شيء غاليا، وبعض الاشياء اصبحت حلما للمواطن لانه لا يستطيع اقتناءها أو السعي لها، في ظل هذه الظروف تنخفض قدرة المواطن الشرائية وينخفض مستوى المعيشة. هذا في الوقت الذي تنتشر العمالة السائبة ولا تستطيع وزارات الحكومة فعل اي شيء سوى الاستسلام امام قوة الذين يقفون خلف هذه الظاهرة ويستفيدون من الوضع المتسيب.
الوضع بحاجة لمزيد من «القدرات العقلية» للخروج برؤية واضحة للمستقبل، وبحاجة لإدارة جديدة لتنفيذ برامج الانتقال من وضعنا الحالي إلى الوضع المستقبلي، وفوق هذا وذاك فإننا بحاجة لخفض البيروقراطية إلى النصف وانهاء كل الممارسات غير السليمة
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 186 - الإثنين 10 مارس 2003م الموافق 06 محرم 1424هـ