كتب أحد القساوسة في القرن السابع الميلادي رسالة إلى أحد أصدقائه يشرح فيها طبيعة الحكم الإسلامي الذي استبدل الحكم البيزنطي في الشام وفلسطين قائلا: «هؤلاء أصبحوا سادتنا بعد أن مكنهم الله هذه الأيام، غير أنهم لا يحاربون ديننا المسيحي، بل على العكس يحمون عقائدنا ويحترمون قساوستنا ورجالنا المقدسين، وأيضا يتبرعون لكنائسنا وصوامعنا».
مبدأ التسامح والتعايش الذي عمل به المسلمون قبل أربعة عشر قرنا هو ذلك المبدأ نفسه الذي أنقذ الأوروبيين وأخرجهم من «عصور الظلمات». ففي القرون الوسطى لم تكن أوروبا تعرف معنى التسامح على الإطلاق، وكان أتباع المذاهب المسيحية يعانون من بعضهم الآخر، وكان بعضهم يمنع الآخر من ممارسة عبادته، بل إن الجامعات العريقة (مثل جامعة اوكسفورد وكامبردج) كانت تمنع أتباع المذهب الكاثوليكي من الالتحاق بالتعليم العالي بها. كما أهلكت الحروب الدموية والطاحنة الشعوب الأوروبية التي كانت يسيطر عليها رجال الكنيسة والإقطاعيون والملوك الاستبداديون. كانت بدايات عصور النهضة والخروج من التخلف تتمثل في تحدي الديكتاتورية من جانب وتنشر مبدأ التسامح من جانب آخر. التسامح يعني قبول التعايش مع الطرف الآخر الذي اختلف معه في الفكر والأسلوب.
مبدأ التسامح كان ومازال أحد أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع المدني المعاصر. والتسامح له فلسفة بسيطة في الفهم ولكنها صعبة في التنفيذ. إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي كانت تتصدر العالم في هذا الفهم هي في أمسِّ الحاجة اليوم إلى أن تراجع أساليب حياتها لكي تعود إلى تلك المفاهيم التي نشرت النور والحضارة. فهناك سوء فهم لمعنى التعايش. فالبعض يرى أن مثل هذا الأمر لا يتم إلا من خلال «انصهار» الجميع ضمن تنظيم أو كيان واحد وأن هذا الانصهار يتم من خلال «تصفية» الخلافات والقضاء على مصادر تلك الخلافات.
غير أن واقع الحياة الإنسانية يتحدث عن استحالة «تصفية» الخلافات، لأن الإنسان يختلف عن أخيه الإنسان في الهدف والأسلوب وفي تفاصيل الهدف وتفاصيل الأسلوب وفي تفاصيل كل أسلوب متفرع من الأسلوب الرئيسي. بمعنى آخر فإن المجتمعات التي حاولت تصفية الخلافات ربما نجحت في إخفائها لفترة معينة ولكنها سرعان ما تفاجأ بأن عدم الاعتراف بحقيقة الأمر لم ينفع في شيء سوى في تعميق المشكلات وإظهارها بصورة معقدة غير قابلة للتبسيط. والمشكلة الكبرى أن ظهور الواقع (غير المعترف به) بهذا الأسلوب المعقد تنتج عنه أساليب وممارسات لا يتصور المرء كيف بالإمكان حدوثها في أوساط مجتمعية تتحدث عن الأخلاق وعن الشرف والأمانة وغيرها من المفاهيم السامية التي تعد من صلب المبادئ الدينية والإنسانية الرفيعة. الأمم التي استطاعت تجاوز هذه الأزمات الاجتماعية هي تلك التي آمنت بأن الخلاف شيء طبيعي واستطاعت أن تتفق على طريقة لإدارة ذلك الخلاف، بل في كثير من المجتمعات يعد الخلاف أمرا ضروريا وليس مسموحا به فقط. والمعارضة في كثير من البلدان تحفظ التوازن في المجتمع من خلال ممارسة دورها «لمخالفة» الحكومة. إلا أن المهم فهمه هنا هو أن طريقة الخلاف وأساليب التعامل أمور ينبغي أن يكون تم الاتفاق عليها، تماما كما هو الحال في لعبة كرة القدم مثلا.
إن إدارة عملية الخلاف تعني أن المجتمع يعترف بالطبيعة الإنسانية ويفسح لها المجال، تماما كما أن الطب وصل إلى نتيجة هي أن عصرنا الحالي ليس عصر أوبئة وليس مهمة الأطباء الوقاية من الوباء. فالأوبئة تم تقريبا القضاء عليها في أنحاء العالم، وما تبقى منها شيء قليل مما كان يحدث في الماضي عندما كان الطاعون يقضي على مدينة بكاملها. ما هو مطروح في الطب هو «الرعاية الصحية» وليس «تصفية الأوبئة». والمجتمعات اليوم تتعايش مع أمراض كثيرة مثل وجع الرأس ووجع الظهر وغيرهما. والناس لا تذهب إلى الطبيب في كل شيء، فكثير من المفاهيم الطبية أصبحت مفهومة شعبيا وأصبحت الصيدلية محطة أولية للأمراض الاعتيادية التي يتعايش معها الناس.
التسامح أنتج حضارة التعايش من خلال إدارة عملية الخلاف بأسلوب إنساني وهذا هو فحوى الآية الكريمة «وأمرهم شورى بينهم». فالحضارة الغربية وصلت إلى ما هي عليه من خلال إدارة عملية الخلاف القائمة على التسامح. ولو أحيى الله اليوم ذلك القسيس الذي كتب رسالته قبل أربعة عشر قرنا لاستغرب كيف انقلبت الأمور رأسا على عقب