العدد 185 - الأحد 09 مارس 2003م الموافق 05 محرم 1424هـ

طوَّرت العلاقات وغذَّت التنافس الفرنسي الأميركي

زيارة شيراك للجزائر

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

مليون جزائري استقبلوا الرئيس الفرنسي جاك شيراك. شكل ذلك مفاجأة للجميع وفي مقدمتهم المحتفى به الذي لم يسبق له ان وجد مثل هذا التكريم والترحاب في اي بلد زاره منذ ان تولى رئاسة بلاده. وتباينت الآراء حول تفسير ذلك الاستقبال المدهش. مال الكثيرون إلى ارجاع ذلك إلى موقف شيراك من ازمة العراق، والمعركة التي يخوضها بالتنسيق مع المانيا من اجل منع الحرب. وتجلى ذلك في الشعارات التي رفعها الجزائريون اثناء مرور الركب الرئاسي، ودعَّمها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة باقتراحه منح الرئيس الفرنسي جائزة نوبل للسلام.

لكن هناك بعض الصحف الجزائرية التي لم تقلل من اهمية هذا العامل، لكنها اضافت اليه الشائعة التي راجت قبل فترة وجيزة من وصول الرئيس الفرنسي إلى الجزائر، تعلقت باحتمال القيام بتسهيلات لفتح باب الهجرة إلى فرنسا امام الجزائريين.

وهو ما يفسر التزاحم الشديد على القنصليات الفرنسية في الجزائر، وترديد شعار«التأشيرة» الذي لقيه شيراك في كل الطرقات التي مر بها، ما جعله في احدى الكلمات التي ألقاها امام عدد من الشبان الجزائريين يدعوهم إلى «التشبث بالبقاء في بلادهم». وشتان بين التضامن مع العراق والمطالبة بفتح الابواب من اجل «الهروب من الوطن». وبين هذا لا يمكن نسيان التنافس الفرنسي الاميركي على المغرب العربي.

الفرنسيون يعيدون بناء سياستهم

قرر الفرنسيون منذ سقوط الاشتراكيين في الانتخابات التشريعية الاخيرة اعادة بناء علاقاتهم التاريخية والاستراتيجية مع المغرب العربي. جاء هذا التوجه عندما احسوا بأن سياستهم الخارجية تأثرت سلبا بملفات سياساتهم الداخلية. ثم تعزز هذا التوجه لما لاحظوا تنامي الاهتمام الاميركي بهذا الجزء الحيوي من افريقيا والعالم العربي والمنطقة المتوسطية.

ليست لفرنسا مشكلات عويصة ومعقدة مع معظم دول المغرب العربي. حتى العلاقة مع ليبيا امكن التغلب على بعض جوانبها المؤلمة. فالمشكل الحقيقي كان يكمن ولايزال في كيفية اعادة بناء الثقة بين باريس والجزائر. ويعود السبب إلى استعمار دام 132 عاما، وحرب تحرير دامية استمرت ست سنوات اسفرت عن اكثر من مليون شهيد. اما بعد الاستقلال فلم يتمكن الفرنسيون من التخلص بسهولة من عقدة «السيد السابق»، ولم يستطع الجزائريون من تجاوز الجروح العميقة التي خلفتها سياسة استعمارية قامت على الاحتقار والعنف الشديد. لهذا، كلما حصل تقارب وحوار بين الطرفين سرعان ما تحدث انتكاسة بسبب حادث او تصريح يعيدان الصخرة إلى سفح الجبل. لكن مع تطور الحوادث ادرك شيراك ومن يقف وراءه من شركات فرنسية عملاقة وعدد من مجموعات الضغط وصناع القرار، ان الجزائر تبقى البوابة الرئيسية لكل مخطط بعيد المدى يهدف إلى احتواء منطقة المغرب العربي. لا يعود ذلك فقط إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي او اتساع مساحتها، وانما ايضا إلى ثقلها الاقتصادي وتشابك المصالح بينها وبين فرنسا. وتكفي في هذا السياق الاشارة إلى الجالية الجزائرية في فرنسا التي تعد مليوني مهاجر، اضافة إلى ان باريس هي الشريك التجاري الاول للجزائر.

شيراك يدخل الجزائر من 3 أبواب

لكي يتمكن من فتح البوابة الرئيسية للمغرب العربي، قرر شيراك ان يدخل البلد من ثلاثة مداخل:

المدخل الرمزي: وهو مدخل مهم جدا اذا استحضرنا رواسب الماضي التي تراكمت طيلة اكثر من قرن ونصف. لهذا توجه إلى البرلمانيين الجزائريين بقوله: «علينا ألا ننسى او ننكر هذا الماضي المعقد والمؤلم»، مضيفا: «بلدانا يداويان جروح الماضي ولكن عهدا جديدا يبدأ». فهو لم يقدم اعتذارا طالما انتظره الجزائريون، لكنه لم يكتف بدعوة الجزائريين إلى مواجهة مشتركة للماضي و«الاعتراف بجروحه وبعده المأسوي»، وإنما عزز ذلك بحركات لا تقل دلالة. تمثلت اولا في وضع اكليل من الزهور على ضريح الشهداء الذين كانت تعتبرهم السلطات الفرنسية «ارهابيين وقتلة». وثانيا اعادة ختم «الداي حسين باشا» آخر الحكام المحليين قبل سقوط الجزائر بأيدي الفرنسيين، وفي تلك الاشارة دعم لمفهوم السيادة. واخيرا قام شيراك بتسليم بوتفليقة الوثائق الاصلية لمذكرات الجنرال شارل ديغول الخاصة بحرب الجزائر.

المدخل السياسي: تحدث الرئيس الفرنسي عن ضرورة بناء «شراكة فريدة» بين البلدين. ووقع مع بوتفليقة «اعلان الجزائر» الذي شبهه البعض بمعاهدة الاليزيه (1963) التي رسخت المصالحة التاريخية الفرنسية الالمانية. مؤكدا رفضه التدخل في الشئون الداخلية للجزائر ولدول المنطقة، حتى وهو يقدم النصحية بتطبيع العلاقة بين الجزائر والمغرب. فمسألة التدخل مسألة حساسة شكلت في السابق عاملا رئيسيا من عوامل التوتر المستمر بين البلدين، وخصوصا عندما ادانت باريس قرار قيادة الجيش الجزائري رفض نتائج الانتخابات التشريعية التي فازت في دورتها الاولى (الجبهة الاسلامية للانقاذ)، ثم تعمقت الازمة عندما شكَّت السلطات الفرنسية في قدرات النظام الجزائري على مواجهة الحركات المسلحة التي كادت ان تقلب موازين القوى لصالحها، ما جعل باريس تفعل مثلما فعلت واشنطن، اي نسج علاقات مع «البديل الاسلامي» الذي كان محتملا. اما اليوم فقد تعزز التنسيق الامني بين الطرفين من اجل مواجهة خصم مشترك هو «الارهاب». كما تحرص باريس الآن على عدم التورط مرة اخرى في ملف «القبائل»، لادراكها بأن تناول موضوع الامازيغية يشبه المشي فوق حقل ألغام.

المدخل الاقتصادي: جاء شيراك لتوقيع ثلاثة اتفاقات بقيمة 95 مليون يورو. كما اشار إلى عودة المستثمرين إلى السوق الجزائرية، ومساندتهم اكثر فأكثر للاصلاحات الاقتصادية، وذلك على رغم بعض النقائص التي دعا إلى ضرورة تداركها، ورافقه عدد من رؤساء الشركات الفرنسية الكبرى مثل «طوطال» «وايرباص». فهو يعلم انه يتوجه إلى بلد تطحنه ازمة اقتصادية شديدة، جعلت نسبة البطالة ترتفع إلى حدود 30 في المئة.

طُوَتْ صفحة وفُتِحَتْ صفحات

كانت زيارة ناجحة، اخرجت العلاقات الجزائرية الفرنسية من زقاق الماضي، ووجهت رسالة قوية إلى واشنطن مفادها ان منطقة المغرب العربي لاتزال تشكل دائرة نفوذ فرنسي، وأن باريس غير مستعدة ان تنسحب او ترضى بالمزاحمة في ما تعتبره «مجالها الحيوي». لكن مع ذلك فإن القضية لم تنته. اولا، اكد الجزائريون انهم ينتظرون افعالا وليس «اقوالا معسولة». وثانيا الوضع الجزائري الداخلي وكذلك الوضع بكامل المنطقة لايزال معقدا اكثر مما يمكن ان تفكك رموزه زيارة تمت في وضع دولي له خصوصياته. وثالثا، عندما تفرغ اميركا من العراق فإن لها حسابات اخرى في كامل المنطقة، بما في ذلك شمال افريقيا. وذلك يعني ان هذا التنافس الذي سيزداد قوة خلال المرحلة المقبلة، بقدر ما يشكل فرصة لدول المغرب العربي للاستفادة من العروض وتجنب الوقوع تحت ضغط الاستقطاب الاحادي، بقدر ما يمكن ان يعرّضها لهزات واختراقات شديدة اذا اخطأت الحساب، وراهنت على الاوهام، وتهاونت في الدفاع عما تبقى لها من سيادة

العدد 185 - الأحد 09 مارس 2003م الموافق 05 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً