مرة أخرى، بل أكثر من أية مرة سابقة، تجد إدارة الرئيس جورج بوش نفسها محاصرة من كل صوب، في مشروع حربها
الكفة، حتى اللحظة، تميل إلى صوب الخيار الثاني. صحيفة «نيويورك تايمز» نسبت الى الوزير باول قوله، بحضور الرئيس بوش إن مشروع القرار الاميركي المطروح امام مجلس الامن يواجه هزيمة مذلة. حتى الآن لا يحصل سوى على اربعة اصوات بحسب مصادر في الامم المتحدة، وتضيف «تايمز» أن الادارة يتنازعها الآن اتجاهان، واحد يدعو الى شن الحرب في غضون ايام قليلة مع سحب المشروع من المجلس لأنه لن يرى النور، وتجاهل الموقف الدولي. وفريق آخر يدعو الى التراجع والقبول بتعديلات تسمع بالمزيد من الدبلوماسية، تجنبا الدخول بمغامرة مجهولة المضاعفات.
الوزير باول امس في حديث له في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. في واشنطن حرص على تمرير عبارة منح العراق «فرصة اخيرة» ولو لعدة ايام فقط وذلك على رغم نبرة التوضيب للحرب التي طغت على كلمته. والمعروف ان هذه العبارة تكررت في الآونة الاخيرة على لسان المسئولين الاميركيين من دون ترجمة، الامر الذي يشير الى وجود ارتباك داخل الادارة الاميركية وتردد في الحسم نتيجة الاخطار الى اخذ الاجواء الدولية غير المواتية لها في الاعتبار ولذلك هب الحليف البريطاني ليلعب دور المنفذ، من خلال ما تردد عن عزم حكومة بلير على تقديم تعديلات على مشروع القرار الاميركي، تقضي بتوسيع الفسحة الزمنية للتفتيش. ضمنا يعني ذلك تأجيل الحرب ولو بضعة اسابيع. فالمأزق مستحكم وكسر عصا الطاعة الدولية ليس بالسهولة التي يروج لها البعض، خصوصا في منطقتنا، من خلال ترداد مقولة ان الحرب محتومة وليس بالامكان عمل اي شيء لثني واشنطن عنها: وازداد هذا الموقف البائس بؤسا وافلاسا في الايام القليلة الماضية، عندما عجزت ثلاث قمم متتالية عن الخروج بموقف يعزز جبهة المعارضة الدولية لواشنطن.
وتحديدا المعارضة الاوروبية الروسية التي حسم وزراء خارجيتها الثلاثة يوم امس الاول في باريس بخصوص قطع الطريق على تمرير مشروع قرار في مجلس الامن يكون بمثابة غطاء لواشنطن وحربها المزمعة. قرارات كوالالمبور وشرم الشيخ والدوحة، صدرت من دون اشارة إلى اميركا وكأنها ليست صاحبة مشروع الحرب وكذلك من غير اشارة نثمين حتى لا نقول دعم ومساندة للثلاثي الاوروبي - الروسي الذي كان ومازال حجر العثر الاكبر في طريق واشنطن الهم الطاغي في هذه القمم كان في كيفية عدم اغضاب اميركا او تعكير مزاجها. الامر الذي ادى الى الحؤول دون القدرة على توجيه خراطيم المياه الى مصدر الحريق، على الاقل لتطويقه اذا تعذر اطفاؤه. وفي أقل الاقل لمؤازرة فرق الاطفاء الدولية الاخرى الناشطة بلا هوادة لسد السبيل امام امتداد نار الحروب الاميركية الى منطقتنا. فبدلا من ذلك غرقت تلك القمم في بياناتها الاخيرة، باللعب على الالفاظ الخاوية مثل الرفض المطلق للحرب على العراق! والاعلان عن عدم المشاركة ابدا فيها ضحك على الذقون واستخفاف بعقول وفهم الرأي العام والناس لكن في الحقيقة كان ذلك بمثابة زيارة انكشاف وهروب وزاد من الانكشاف ما شهدته من اشتباك مع الذات وامام الملأ مرتين والحبل على الجرار هذا اذا لم يتطور التلاسن إلى تبادل القذائف، اذا انفجر الوضع.
ان هذه المناسبات الثلاث تنطق، من جملة ما تنطق بحقيقة جوهرية وهي ان اصحاب الشأن المفترض ان يكونوا متبعين - ومن غير العرب؟ مباشرة وقبل كل الناس، بالحريق الآتي الى المنطقة فضلا عن الحريق المشتعل في فلسطين يقفون امام هذه التحديات من دون بوصلة وممنوع عليهم - أو هم ارتضوا بالمنع، لا فرق - العثور عليها. والمقارنة فعلا محبطة ومؤلمة إلى أقصى الحدود عندما نضع ما طلعت به هذه القمم - وتحديدا العربية ـ مقابل ما طلع به البرلمان التركي؛ على رغم خصوصية العلاقات التركية - الأميركية المزمنة وروابط التخالف الاستراتيجي بين الطرفين. أو عندما نستعرض أجواءها وبياناتها، التي سادتها المشادات والمواقف الخاوية -والأنكى أنهم عملوا من هذه الأخيرة إنجازات - ونقابلها مع وقفة وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وروسيا، أمس في باريس، جنبا إلى جنب ليعلنوا بصوت واحد أن القرار الأميركي لن يمر في مجلس الأمن وأن الحرب الآن غير مشروعة.
لقد هزلت وتقزمت إلى أبعد الحدود. ولا شك في أن مثل هذا التمادي في التردي العربي يعوض على واشنطن ويقدم لها شيئا توازن به، ولو بصورة محدودة، ما نخسره من دعم دولي وما يتراكم بوجهها من اعتراضات على سياستها في المنطقة. وليس من المستبعد أن توظف واشنطن هذا التساهل - ناهيك عن «التسهيلات» - للتحايل والالتفاف على مجلس الأمن والقفز من فوقه إلى حرب تفتعل وتفبرك مدخلا لها. فهل يكون من المستغرب مثلا أن تلجأ واشنطن إلى خدعة من نوع ترتيب حركة مزعومة داخل العراق، تطلب دعما من قواتها المرابطة على الحدود؛ فتقوم هذه الأخيرة بالغزو، تحت ستار العمل على تلبية طلب للمساندة ضد النظام في بغداد؟ هذا الأخير لجأ إلى السيناريو نفسه يوم اجتياحه الكويت. فهل من المستبعد أن تلجأ إليه اليوم إدارة بوش لاجتياح العراق؟
العدد 183 - الجمعة 07 مارس 2003م الموافق 03 محرم 1424هـ