العدد 183 - الجمعة 07 مارس 2003م الموافق 03 محرم 1424هـ

عدته مخرطة يدوية وإزميل وخشب مغربي يحيي تقاليد النجارة القديمة

بيروت - ربيع فواز

بدت الخيمة العملاقة في وسط الظلام المجرح بأضواء المصابيح، القائمة في أقصى الشمال من ساحة الشهداء في بيروت أشبه بـ "خيمة رمضانية" كتلك الخيام التي ادعت تراثا وهي ليست من التراث في شيء!

تلك خيام لا تعدو كونها ملاهي ومطاعم تسربلت مظهرا تراثيا شرقيا، ومضمونها غربي، طعاما وغناء وملتقى عاشقين. وأما هذه - الخيمة العملاقة في أقصى ساحة الشهداء - فشأنها مختلف.

كانت هنا قبل حلول شهر رمضان المبارك ثم رحلت بعد ذلك في جوله عربية، ولذلك سلكتها المناسبة في منظومة "الخيم الرمضانية"، فتردد الناس في غشيانها، إلا الجاليات الفرنسية والايطالية والأميركية، وحقيقتها أنها فلذة من تراث المغرب استقرت هنا في وسط المدينة التي تتغرب لتبرر دور الجسر بين الشرق والغرب. وهذه الخيمة العملاقة تنطوي على وعد بسياحة في المغرب ولكن في وسط بيروت، فشعار الخيمة، المخطوط بالفرنسية هي بقية من أثر الاستعمار الفرنسي لم يقهرها التعريب كليا بعد، يقول: "Ie Maroc chez vous" "أي: المغرب عندكم"... ولا شيء يوحي بأن الباطن طعام غربي، وغناء غربي، ونرجيلة شرقية وزي شرقي يتسربله النادل!.

باطن الخيمة الواعدة بـ "مغرب عندنا": طعام مغربي كله، وغناء ورقص من فلكلور المغرب الفني، ورواق ينزنر المطعم وتأخذك الخطوات فيه من معرض تراثي إلى معرض.

سجاد يدوي، ونحاسيات وخزفيات وجلديات وما شئت مما أبدع الحرفيون المغاربة المسجلون مليونين ونصف المليون حرفي كما قال لنا مدير الخيمة عبدالعزيز الشاوي.

وهذا حرفي يدوي جاء من المغرب واقتعد كرسيا واطئة، وانكب على مخرطة من خشب يعرفها دارسو التراث، ويتذكرها جيل يعلم الله أية ذكريات ستذهب بذهابه!.

يجر بلخير العظيمي قوسا فيها خيط، ذهابا وإيابا، وينحت قضيبا خشبيا فتتأمله ثماني دقائق كاملة حتى ينهي ما يصنع... ها هو يفرغ من نحت بضع قطع صغيرة من خشب ثم يسلكها في خيط، ويسلمها إلى صبية زائرة فإذا هي عقد بسيط، ولكنه جميل، يزين جيد الفتاة.

نعلم أن بلخير العظيمي حرفي ينتقل مع خيمة "المغرب عندكم" في أركان المعمورة الأربعة... يزاول حرفته على مرأى من الناس، ويشكل مع المعرض كله رسالة ثقافية تراثية تؤكد مقولة التفاعل الحضاري الذي لم ينقطع بين الشعوب وتفقأ عين الشعار المرتجل "حوار الثقافات"!!.

يقول لنا العظيمي إنه بلغ الثامنة والثلاثين، وإنه يتجول منذ ست سنوات بحرفته التي اختارها له والده، "كنت صغيرا عندما أخذني والدي إلى حرفي معلم... تعلمت الحرفة عنده، وزاولتها عنده، ثم استقليت"، يقول العظيمي بلهجة مغربية نفهمها، فيتأكد لنا أن اللهجات فروع من منظومة لغوية واحدة، فلا خوف - إذن - من رهان المراهنين على انقسامنا استنادا إلى اللهجات!

ويقول العظيمي إنه علم اشقاءه الصغار حرفته، وانها مجزية تدر عليه دخلا كبيرا، وإنه يصنع بهذه المخرطة التقليدية البسيطة عقودا ومسابح وعكازات وحجارة شطرنج، وكل ما يندرج في إطار "الارابيسك"... "أصنع ذلك من العاج وخشب الجرجاع والأرز والزيتون والليمون، وكل خشب".

وهذه المخرطة، كيف كابرت وبقيت؟

- هذه مخرطة نبوية اخترعها سيدنا موسى... بمثلها صنع عصاه التي التهمت حيات فرعون وشق بها البحر!!.

مخرطة بسيطة... فلو تسمي لنا أجزاءها.

- هي خشب وحديد... أقسامها: خدود على الجانبين، وقرنيات نمسك بها الخشب المعد للنحت، وعتلة حديد انتزعتها من تراكتور زراعي، وقوس هو عبارة عن قضيب يتصل بطرفيه خيط ثخين، وبالخيط والقضيب نربط الخشب ونجره لننحته بالازميل الحاد.

من زبائنك؟

- أكثرهم نساء... أصنع لهن العقود وسائر الزينة. وأصنع للرجال مسابح وعكازات وأدوات شطرنج.

صنعت العقد في دقائق... فماذا عن العكاز والمسبحة؟

- أصنع العكاز في يومين، والمسبحة في ثلاثة ايام.

متأهل؟

- وعندي بنية ووليد. أسرتي لا تشتري زينة... أنا أزين زوجتي وابنتي.

ولا نحتاج إلى حوار في خصائص الحرفة الفنية... يذهلنا الرجل برشاقة يديه وأدواته، ونتصور الوقت الضروري لتعلم حرفة فيها كل هذا الذوق وكل هذه الحسابات ونتلفت في المكان، فنرى بلخير العظيمي ملمحا في مكانه المناسب من هذه اللوحة التراثية الآتية من المغرب لتستقر "عندنا".

العدد 183 - الجمعة 07 مارس 2003م الموافق 03 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً