عادت طبول الحرب تقرع من جديد. والقرع هذه المرة على الخفيف. فالإدارة الأميركية اكتشفت متأخرة أن الأصوات العالية تحدث الضجيج واليقظة وتستنفر القوى... بما فيها تلك الجهات المناهضة للحرب.
يبدو أن البيت الأبيض تعلّم الدرس بسرعة حين وجد نفسه محاطا بمجموعة اعتراضات تحتج على استراتيجية انقلابية تطاول أكثر من طرف وجهة في وقت واحد. الآن وبعد تراجع موجات الاعتراض على مختلف الجهات لجأت واشنطن إلى سياسة الصمت وعدم الإعلان عن أهدافها الكبرى مركزة جهدها على مشروع محدد: إسقاط النظام العراقي.
تقليل الطموحات وتعديل سياسة الكلام وتخفيف أصوات قرع الطبول وتعديل الأهداف... كلها جاءت ردا على نصائح بريطانية إسبانية لصقور الإدارة الأميركية وأشرار الحزب الجمهوري. والنصائح جاءت محددة: وقف الصراخ والتهديدات وعدم تكبير الأهداف وتركيزها على فكرة بسيطة وهي تغيير النظام العراقي أو تنحية رئيسه سلما أم حربا.
التركيز على مسألة إسقاط الرئيس العراقي باسم الحرية وحقوق الإنسان تعيد إنتاج سياسة دولية مغايرة لتلك التي انطلقت منها الولايات المتحدة وانتهت بإصدار القرار الدولي 1441. فالقرار المذكور لا يشير إلى مسألة الرئيس بقدر ما يركز على مخالفة النظام لقرارات دولية سابقة تتعلق بإنتاج أسلحة دمار شامل. وحين أرسلت فرق المفتشين للبحث عن تلك الأسلحة ولم تجدها تغيرت الشعارات واستبدلت بفكرة إسقاط الرئيس وتغيير النظام.
والفكرة الجديدة قديمة في كل الحالات وهي تأتي الآن في سياق قبول جزئي عربي بها. فإسقاط الرئيس العراقي مسألة جذابة للكثير من القوى المتضررة وهي في الوقت نفسه جائرة مرضية لتعويض فشل الاستراتيجية الهجومية الانقلابية التي رسمتها دوائر البنتاغون.
والسؤال هل تقبل الولايات المتحدة بجائرة الترضية مقابل تخليها عن استراتيجيتها العسكرية الهجومية؟ وهل التنحي عن الرئاسة يوازي مشروع التخلي عن الهجوم؟ الجواب ليس صعبا. لا.
المشروع الأميركي أكبر بكثير من موضوع شخص ونظام عائلة وعشيرة. والتنحي لا يعادل التخلي عن استراتيجية هجومية أنفق عليها المليارات حتى الآن ورصدت لها موازنة بعشرات الملايين من المليارات.
هذا في جانب. وفي الجانب الآخر هناك مشكلة موافقة الشخص المعني مباشرة بالموضوع. والكل يعلم القريب منه والبعيد أن هذا المطلب، وخصوصا في هذه الفترة، يعتبر من سابع المستحيلات. فالشخص المعني مباشرة بالموضوع عنده الاستعداد للتخلي عن أشياء كثيرة والتساهل في أمور كثيرة إلا في هذا الأمر: التنحي طوعا عن الرئاسة مقابل ضمانات له ولأسرته وفريق عمله. هذا المطلب يشبه طلب المستحيل وهو كالقرع على أبواب الحديد المصفحة والمدرعة والعازلة للصوت.
إذن ما هي النتيجة أو محصلة السلبيتين: الحرب.
والحرب هي الجواب الأميركي على عدم التنحي. والحرب لن تكون صغيرة... القرع على الطبول سيكون من العيار الخفيف حتى لا تسمع الأصوات في كل الجهات ويحدث الاستنفار المضاد وتدب اليقظة مجددا في مراكز القوى الفاعلة والحية في العالم.
خفوت أصوات الحرب لا يعني ابتعادها بل اقتراب موعدها. وبقدر ما يخف الضجيج بقدر ما تزداد المخاوف من حصولها في الوقت القريب وبسرعة فائقة.
التعديل الوحيد في استراتيجية الحرب هو أن تحصل من بعيد (قصف وتدمير) وإنزال جوي في بعض النقاط والمرافق والمفاصل المهمة في جنوب وغرب وشمال العراق، وتطويق الوسط إلى فترة أسابيع وربما شهور وترك النظام ينهار ويتفكك داخليا قبل تقدم الجيوش إلى بغداد.
هذا التعديل الوحيد (المحتمل) على استراتيجية الحرب يقضي مجددا بتدمير العراق وترك النظام يتخبط حتى يسقط وحده. والأمر قد يتطلب المزيد من الأسابيع وربما الشهور.
السنياريو المذكور هو الأسوأ ولكنه الأفضل بالنسبة إلى حسابات الربح والخسارة في السياسة الأميركية. فالخسارة هي إسقاط النظام ومغادرة المنطقة بسرعة. بينما الربح هو تدمير العراق وترك النظام يتخبط في ظل فوضى عارمة وتشققات عربية. والتفسخ العرب يعطي فرصة جديدة للولايات المتحدة بإعادة إنتاج استراتيجيتها الكبرى التي خففت واشنطن الكلام عنها... لكنها لم تسقطها من حساباتها العامة. وخلاصتها السيطرة والبقاء في المنطقة.
إذن عادت طبول الحرب تقرع من جديد... والقرع هذه المرة على موجات خفيفة ولكنها طويلة المدى تستغرق الشهور بدلا من الأسابيع
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 181 - الأربعاء 05 مارس 2003م الموافق 01 محرم 1424هـ