العدد 181 - الأربعاء 05 مارس 2003م الموافق 01 محرم 1424هـ

هروب الكرز

«من يمتلك الماء يغمر به أعين الموتى ويقول: مطهرين، مطهرين ولا يجاهر بالكفر إلا الفاسق، آمنت بنصي»

الوقت يمر والكرز في حالة من النفور، العلامات الرملية كلها تشير إلى إحباط شديد ورائحة البرتقال تصيبني بالتقيؤ والخيانات، غياب العسل عن الأحجار يفجر في الأفواه لغة من الجفاف مستحيلة، لا يشرفني أبدا أن أهجر تلك الزاوية القديمة، فالوجه الذي كان يضحك هناك يسحب من الخيوط السوداء الممتدة من عيني ملامحه. يقولون إنها المقبرة، وزيارة الموتى تطيل العمر، المقبرة شيء جميل أحتفي به لوحدي، أحب الموتى أكثر من الأحياء لأنهم لا يحتاجون للنفاق مثلما يفعل الأحياء من جنسي. أشعر أن القبور تحبني، فهي تتشبث بأطراف عباءتي كلما مررت وحاولت تجاوز أحد القبور متجاهلة الآخر. يضحكني الوضع أحيانا، فالهاربون من الموت مشتاقون له أصلا، حتى قطة جارتنا التي يعرفها كل من يمتلك نقصا في عقله! جارتنا تروج في المدينة ألغازها وبصيرتها وأحيانا توقعاتها فهي تدجج في عقول الآخرين أوهامها بكل قناعة، وتقصر في الأعمار وتطيل وكأنها مطلعة على اللوح المحفوظ، غريبة! لا أدري فعلا لماذا أكتب رسائلي في المقبرة، وأظن أن جدي سيسمعها مني، جدي العزيز، ذلك الرجل الذي كنت اشاغبه كثيرا في صغري، رجل لا أذكر اسمه لأني كنت اناديه جدي فقط. يقول خالي إنه سيصنع له شاهدا على قبره ويحفر عليه اسمه، انتظر هذا الشاهد بوهج مشتعل لا لشيء فقط لأتعرف على اسم جدي الحقيقي، ربما لم ينشر اسمه في الصحيفة ولم اقرأه في نشرة المتوفين وللآن لم ابحث في دليل الهاتف عنه، وحتى لو بحثت لا اعتقد أني سأجده في مكانه اللائق ومنزلته الكريمة، ربما يعرف وجهه كل إنسان فقط لأنه إنسان كريم.

كان يدفع حبات الكرز في فمي ويلونه بالأحمر فيتقاطر ماؤه على قميصى ويلوث أطراف أصابعي، كان فمي يضيق به كثيرا، لكني الآن وكما تقول أمي تغيرت وتوسع فمي من الثرثرة الزائدة، فأنا اثرثر حتى في منامي وأكتب الرسائل والقصص في غفلتي وانتباهي، ربما كان إرثي من جدي هو قطع الشكولاته المحشوة بالثرثرة. لم يترك لي جدي شيئا آخر غير ابتساماته المتطايرة في الريح، تلتصق بوجهي وأنا عند قبره ألهو بسمرته البهية التي أصبحت مأهولة للشمس والناظرين. هناك من يشيع، وقفت أتقصى، دخلوا وخرجوا بعد أن أدخلوه إلى القبر وبعد أن فتح القبر ذراعيه له، أسروا له ببعض الأحاديث ومضوا! لا أدري لكن هناك شيئا يدفعني للخروج فقد جاء ضيف ليخرج ضيفا آخر ويحكم إغلاق الباب من خلفه.

عرق الماء!

كانت تسحبني من يدي الملفوفة بإصرار، والقافلة الممتدة بالهوادج والعبيد تمشي بين فرائصي وقلبي. سألتها البؤرة: أمي إلى أين ؟ فكانت إجابتها: الجفن على البؤرة!!!

لقد عودتني أن أدفن جسمي في الماء وأتطهر وكانت تتمتم بآية «إن الله يحب المطهرين...» الماء يشبه كف عمي التي تمتلئ بعرق الماء وانسيابه المتجسم المنسرب إلى فمي المغلق، يحمل وردة يده السمراء القوية.

عيون تتلاقى بحنان بين فواصل القافية ومقدمتها. لغة العيون لغة غير معروفة عند الجميع، الجن والأشباح تشتاق لها، تزورها، تحمل أكياسا بيضاء وحمراء يقطر منها سائل غريب.

أنا لا أستطيع تمزيق قماطي والمشي، أراقب امرأة مدفونة في السواد تخيط من القمر نسج ملابس وقطعا بيضاء، وتخزنها بخفية في صندوق كبير ترصه مع الكثير من القطع البيضاء التي جلبتها الجن لها.

يبدو أن التفكير متعب جدا، أشعر بالعطش، انهم غريبون، هادنوا التراب وتركوا الماء!

الشمس التي تستبيح السماء بسلطانها تتدافع في غيبوبة عيني، فيها يد عمي السمراء ينهدر منها الماء ربابا إلى ثغري، توقف لقد امتلأت بالماء!!!

بدأ جسمي يتضخم ويتفاقم يكاد أن ينفجر في الندى، هدنة الماء على التراب.

* كاتبة بحرينية





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً