العدد 181 - الأربعاء 05 مارس 2003م الموافق 01 محرم 1424هـ

المجتمع المدني في العالم الإسلامي

كوالالمبور - تشاندرا مظفر 

تحديث: 12 مايو 2017

ربما يندهش كثير من الناس عندما يعلمون أنه كانت هناك نظرية «للمجتمع المدني» في الفلسفة الاسلامية الكلاسيكية. إن المجتمع المدني كان رؤية لحكومة الفضيلة موجهة بواسطة الايمان بالله ومرتكزة على القيم المتجذرة في القرآن الكريم، قيم مثل العدل، المساواة، الحرية، الرحمة والكرامة.

في هذه الحكومة، يحمى الانسان، وحقوقه وكرامته بواسطة القانون والسرايا والأمراء الذين يكونون عارفين بالله وثقات. ان الانسان أو المواطن، باللغة الحديثة، يفي بمتطلبات مسئوليات نفسه ومجتمعه وربه والأكثر أهمية «أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» كما نص على ذلك القرآن الكريم.

وكان الفيلسوف الذي أسهم في تطوير هذه الفكرة على المستوى النظري هو الفارابي «078 - 059م». إذ وضع رموزا للمجتمعات مع «قيم مدنية» باعتبارها معيارا. كما كتب أيضا كل من الفيلسوف ابن مسكاويه «639 - 0301م» وابن خلدون «2331 - 6041م» عن نظرية «المجتمع المدني».

الفكر الغربي

يجب أن يكون واضحا أن نظرية المجتمع المدني في الفلسفة الاسلامية الكلاسيكية تختلف في بعض النواحي المهمة عن فكرتها الموازية في المعتقد الغربي. ففي الفكر الغربي المعاصر، ارتبطت نظرية المجتمع المدني مبدئيا «بالحرية» و»الاستقلال»، بمعنى المساحة والمجال المتاحان للفرد والجماعة بين الأسرة والدولة لكي يعملوا بأقصى حرية. وبينما يقود مسعى أهداف المجتمع المدني إلى نهايات أخلاقية وضروريات سلوكية - مثلا كما تفهم فكرة الفضيلة جماعيا - هي ليست صفات تعريفية للمجتمع المدني. ومع ذلك، هناك تشابه مهم في رؤيتي المجتمع المدني. تمكن الحرية في الاسلام الفرد من الامتلاك وممارسة الحقوق مثلما تسمح له البدعم والوفاء بالمسئوليات. وبمعنى آخر، انه من دون حرية الفرد، يصبح من الصعب على المسلم أن يباشر احد أهم أهداف الاسلام المقدسة، وهو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

إن حرية الفرد في الغرب المعاصر، لا حاجة لنا إلى القول، انها الأساس الحالي للتعبير عن تعدد الحقوق وممارسة الخيار.

الواقع

إذا كانت للاسلام الأول رؤية نوعية للحرية والمجتمع المدني، فهل ترجمت تلك الفكرة إلى واقع؟ هناك شاهد يظهر أنه في فترات متعددة في التاريخ، احترمت وحمت الحضارة الاسلامية حقوق الأفراد وأكدت أن كلا من الحاكم والمحكوم ملتزمين بأحكام القانون. بعيدا عن فترة الخلافة الراشدة - الفترة التي عقبت وفاة النبي محمد «ص» - كانت هناك حالات بارزة لحكام مثاليين في الدولتين الأموية والعباسية والأسر العثمانية تنكروا لذواتهم لتوكيد أن القيم المقدسة للعدل والمساواة والحرية والرحمة أصبحت أسمى.

ومع ذلك، ففي الحقيقة أن «حكومة الفضيلة» لم تكن الاتجاه العام في الحضارة الإسلامية للعصر القديم. لماذا لم تنبثق قوة سائدة؟

الحكم السلالي

لا شك في أن نهوض النظام الاقطاعي، الملكي حالا بعد عهد المساواة الدينامية لفترة الخلافة الراشدة كان أحد أهم العوامل التي قادت إلى التدني التدريجي للفضائل مثل الحرية. ومن خلال ادخال الحكم السلالي الوراثي، غير معاوية «الخليفة الخامس» شكل الحكومة تماما. إن سياسة المساواة المتجذرة في حقوق الناس والعدل للشعوب أفسحت الطريق لسياسة القصر الموجهة والتي تضع في أحيان كثيرة مصلحة الحاكم فوق رعاية ورفاهية المحكوم. وبينما حل هذا التحول وأخذ مكانه، فإن مثالية «المجتمع المدني» ابتعدت شيئا فشيئا.

التشريع

لعب التغيير المحدد في تطور التشريع الاسلامي دورا أيضا منذ القرن التاسع أو العاشر، وأصبح الفقهاء المسلمون إلى حد ما أكثر حذرا بشأن تأكيد الحقوق والحريات مقارنة بالقرنين أو الثلاثة قرون الأولى جزئيا بسبب الخوف المبالغ فيه من التأثير السلبي للفكر الهيليني على مبادئ الدين الاسلامي. فقد أثار التشرب الابداعي بأفكار الحرية من الفلسفة الاغريقية بواسطة الفارابي ومفكرين آخرين مثل الكندي والرازي وابن سينا، رد فعل من قطاع النخبة الدينية المحافظة التي عزمت الابقاء على ما اعتبرته نقاء الدين.

الاعتداءات

ومع ذلك، ليس النقاش الفكري بشأن تأثير الفكر الهيليني على الاسلام هو الذي قوى النزعة الحذرة المحافظة داخل التشريع الاسلامي. إن ما جعل النزعة اتجاها سائدا هو اثنان من الاعتداءات الخارجية الرئيسية على الحضارة الاسلامية. الأول: غزوات المغول في القرنين الثاني عشر والثالث عشر التي دمرت مراكز عظيمة للتعليم والمعرفة في العالم الاسلامي تتوجت في التدمير المأسوي لبغداد في العام 8521م، إذ كانت بغداد تمثل آنذاك أكبر وأشهر مستودع للمعرفة في العالم ومنارة رائدة للثقافة. كان تدمير بغداد ومدن أخرى للثقافة والحضارة تجربة مؤلمة للعالم الاسلامي إذ توقف الخلفاء والفقهاء عن مباشرة واستئناف رحلات الاستكشاف الفكرية وبدلا عن ذلك اختاروا الابقاء والمحافظة على القليل مما تبقى بعد تلك الاعتداءات البربرية. كما أصبح دعم السلطة المحافظة على القانون والنظام والاحتفاظ بالمجتمع موحدا من خلال تجنب النزاعات والحروب، من الأمور المهمة لكل من الحكام والمحكومين على حد سواء بدلا من تطوير حقوق الناس أو توسعة نطاق العدل الاجتماعي.

الغزو الاستعماري

كانت التجربة المؤلمة في العالم الاسلامي أكثر من غزو المغول هي غزو الاستعمار الغربي والسيطرة التي بدأت من القرن السادس عشر. ففقد المسلمون قبضتهم تقريبا على كل شيء: أراضيهم وحكوماتهم واقتصاداتهم وقوانينهم وثقافاتهم وقيمهم الاجتماعية وأنظمة تعليمهم. أصبحوا خاضعين تماما لقوة أجنبية عظمى، إذ لم يكونوا في موقف لتطوير قيمهم مثل العدل أو الحرية أو تعزيز حقوق الناس. فهزمت الحضارة الاسلامية ودمرت. هذه الحقيقة عامل حيوي في محاولة فهم العالم الاسلامي اليوم ومقدرته على تطوير المجتمع المدني.

الإنجازات المعاصرة

كيف نجحت المجتمعات المسلمة المعاصرة في سعيها وبحثها عن الحرية والحقوق؟ فهم عدد من المجتمعات المسلمة بعض مبادئ الحرية وحقوق الإنسان. من ماليزيا وأندونيسيا إلى بنغلاديش وتركيا هناك انتخابات وأحزاب سياسية متنافسة، وذات قواسم مشتركة مع بعض المجالات لايجاد درجة معينة ومقبولة من المحاسبة العامة - مظاهر تعريفية سهلة للحكم الديمقراطي. في الواقع، نشأت أكثر الحركات البارزة والباحثة عن الحرية والعدل مدفوعة بواسطة نشطاء المجتمع المدني في العقود الحديثة في الدول الاسلامية. كانت الثورة الايرانية في العام 9791 التي وجدت الدعم بحماس من جميع قطاعات المجتمع المدني وقادت إلى الاطاحة بالملكية الاستبدادية مثالا ناصعا لذلك. بمعنى آخر أن الحركة الشعبية ضد الحكم العلمائي الديني في ايران اليوم - مرة أخرى، تجد الدعم بواسطة قطاع واسع من مجموعات المجتمع المدني - والتي عبرت عن نفسها في عمليتين انتخابيتين رئاسيتين حتى الآن في العام 7991 والعام 1002 على التوالي، ستكون مثالا آخر لكفاح الشعب الدائم من أجل الحرية والعدل. الحركة الضخمة التي انبثقت من رحم المجتمع المدني ونتجت عنها الاطاحة بالدكتاتور سوهارتو في اندونيسيا في مايو/ أيار 8991 تعطي مزيدا من البرهان على قوة وحيوية النشطاء الاجتماعيين المستقلين، خارج البنيات الرسمية لسلطة الدولة، في أجزاء معينة من العالم الاسلامي.

النخب المستبدة

بينما توحي هذه التطورات الهائلة خيرا بالحرية والمجتمع المدني، يظل المرء متشائما إلى حد ما من بعض التهديدات المشمئزة لهذه المثاليات. ركزت السلطة الاستبدادية للنخب على ادامة الابقاء على مواقعها وامتيازاتها إذ تمثل بذلك احد هذه التهديدات. هذه النخب، دينية أو علمانية، عسكرية أو مدنية، اقطاعية أو عصرية، عرفت بقمعها وتعذيبها وحتى تصفية منتقديها أو اضعاف وتحطيم المؤسسات الاجتماعية المستقلة والادارية من أجل تأكيد بقاء سلطتها. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك في العالم الاسلامي إذ يتم دعم بعضها بواسطة قوى امبريالية غربية.

الصحوة الإسلامية

هناك تهديد آخر مماثل وخطير للحرية والمجتمع المدني في العالم الاسلامي. يأتي هذا التهديد من الاتجاه الذي يوصف في احيان كثيرة بـ «التجديد الاسلامي». على رغم أنه في سعيهم لاقامة دولة اسلامية، يناصر الاسلاميون المجددون، مثل المنشقين الآخرين، مبادئ الحرية وحقوق الانسان والمجتمع المدني، فمن خلال الفحص الدقيق لأيديولوجيتهم وأدائهم في السلطة تتضح نزعة جلية نحو الاستبداد والهيمنة الكاملة. لا تظهر تلك النزعة في أي مكان مثلما هي معبر عنها في مواقفهم تجاه نظريات الاسلام والقانون الاسلامي والسياسة الاسلامية والاقتصاد الاسلامي... الخ، والتي تختلف عن تجديداتهم. وباقتناعهم بأن رؤيتهم عن الاسلام هي الرؤية الوحيدة التي لها اقرار مقدس، يمارس المجددون احتكارا كاملا «للحق». وهذا واضح في الحكم العلمائي الديني في بعض الدول الاسلامية من خلال النخبة المجددة التي تفرض تفسيرا عقائديا صارما على شعوبها. وخير مثال على ذلك الممارسة القاسية لاحكام القانون بواسطة طالبان التي أحلت البؤس والمعاناة على الشعب الأفغاني تحت سيطرتها ما بين العام 6991 - .1002

فالمجددون الاسلاميون يعتقدون بأن رسالتهم السامية هي تنفيذ الحدود وفرض دور مقيد على النساء في المجال العام واعادة تنظيم العلاقات الجنسية بطريقة تفوق الرجال ليس فقط في البنيات المجتمعية السائدة ولكن أيضا في الوعي الجماعي للشعب.

الرسول «ص» قدوة

إن الفهم الاستبدادي للاسلام بنزعته الأبوية القوية يجب أن يوضح مرات ومرات، على أنه انحراف تام عن الاسلام الذي أتى به الرسول محمد «ص». كان هم الرسول «ص» المبدئي رفع الوعي الأخلاقي للشعب، وليس تنفيذ السلطة والسيطرة عليه. وكان «ص» يسعى إلى اصلاح النظام الاجتماعي من خلال أمثلة ساطعة للاقناع الأخلاقي. لم يكن فرض الأحكام القاسية على المجتمع ومعاقبة المخطئين من سمات قيادة الرسول «ص». وفي هذا الخصوص، من المهم أيضا ملاحظة أنه من خلال الممارسات والمبادئ السائدة في العهد الاسلامي الأول، فإن معاملة الرسول «ص» للنساء كانت جديرة بالثناء والاطراء... إذ يجب أخذ موافقة وقبول المرأة، على سبيل المثال، قبل الزواج، وكانت تشجع على الاحتفاظ باسمها ونسبها الأول بعد الزواج، ولها حق في التعلم والحق في الامتلاك والوراثة وأن تشارك في شئون المجتمع... الخ.

إن مصير المرأة في الاسلام هو الجنة في الدار الآخرة كما هو مصير الرجل أيضا. إن الرسول «ص» في الواقع أحدث ثورة في المكانة الاجتماعية للمرأة بلغة عصره. وليست هناك حاجة إلى ذكر مكتسبات المرأة في عهده «ص» المتناقضة مع محاولة المجددين المعاصرين اهمالها وحتى اخضاعها.

الإسلام المحافظ

في الواقع إن ما ظهر تجديدا اسلاميا اليوم هو فهم للدين مستمد من أخلاقيات الغزو والاخضاع. لقد رأينا كيف أن الغزو الاستعماري خلق فجوة بين روح العدل للاسلام الأول والفهم المحافظ للقانون والمجتمع الذي حل ثانية كما هو مع السلطة الدائمة التي تطورت في القرون الأخيرة تفاعلا مع الاعتداءات الخارجية على حضارة المسلمين. هذا الاسلام التفاعلي المحافظ الموجه قانونيا والمرتكز على السلطة هو الذي ورثه المجددون المعاصرون ويسعون إلى نشره.

الهيمنة العالمية

أصبح هذا الفهم للاسلام مع كل ميوله الاستبدادية قويا في حقبة ما بعد الاستعمار جزئيا بسبب النظام العالمي الموجود. وبما أن مراكز القوة العالمية الواقعة بشكل كامل في الغرب مهيمنة، وبما أن نمط السيطرة الحالي هو إلى حد ما متجذر في الماضي الاستعماري، أصبح المجددون مدركين أكثر الحاجة إلى الاحتفاظ وحماية هوية دينهم معرفة بمصطلحات متزمتة. بمعنى آخر، إن المجددين في ظل وجود إرثهم، تفاعلوا مع الهيمنة الغربية وتحديدا الهيمنة الأميركية العالمية بواسطة تأكيد رؤيتهم الخاصة المحافظة والاستبدادية عن الاسلام. كما أن المظالم المتنامية المتولدة من خلال القوى المهيمنة عالميا - والتي أثرت سلبيا على المسلمين والشعوب في كل مكان - عززت مزيدا من عزم المجددين على مواجهة النظام من خلال العنف والقوة، ولكن استخدام العنف وسيلة لمحاربة القوى المهيمنة، يضعف فقط القيم التي يعترف بها الاسلام. انه يدمر البحث عن المجتمع المدني و»حكومة الفضيلة»، التي لا يمكن أن تكتمل من خلال الدماء والحديد وخصوصا أن الاسلام دين يعز السلام. في الواقع مصطلح «اسلام» نفسه يعني سلام - سلام عبر الخضوع لله.

السلام

ومع ذلك لحسن الطالع، هناك ملايين وملايين المسلمين - أكثر فأكثر من الحفنة القليلة التي استخدمت العنف باسم الدين - يرون ويفهمون الاسلام كما ينبغي أن يفهم. دين السلام يتجه وراثيا نحو قيم مثل العدل والحرية والمساواة والكرامة والحب والرحمة التي تقود حتما إلى خلق مجتمع مدني. إن المسلمين الذين اختاروا هذا الطريق ليسوا أقل التزاما من المجددين المتزمتين في التحول السياسي والاجتماعي الاساسي في مجتمعاتهم الخاصة وفي المستوى العالمي. انهم يرغبون أيضا في رؤية نهاية لهيمنة النخبة في السياسة المحلية كما يحبون أن يشهدوا نهاية لهيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي.

ولكن الوسائل التي تستخدم للوصول إلى هذه النهايات تعد مهمة أهمية النهايات نفسها. فالوسائل غير النبيلة لا تنتج نهايات نبيلة. إن العنف الوحشي وغير المتعقل يشوه فقط جمال الاسلام.

في الواقع رسالة المسلمين الذين يفهمون المعنى الحقيقي للاسلام في القرن الحادي والعشرين واضحة بدقة: المساعدة في خلق مجتمع سلام عالمي موجه بواسطة قيم روحية وأخلاقية عالمية جذورها المبادئ المقدسة. مجتمع معروف في الماضي كما سيكون معروفا في المستقبل بالمجتمع المدني





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً