هو تضارب التصورات والآراء وتصادم الفهم والتحليل، وما ينتج عنه من تأمل وتفكير لأصحاب الآراء والتصورات، وما يعطيه ذلك من مساحة واسعة للمتلقي والمتابع، فيمتلك عناصر تفكير حقيقية يستخلصها من كل تصور، ليقرر بعدها موقفه ورأيه.
جمة هي الفوائد المرتقبة من النقد، والمتصيدة من جوهره وحقيقته، شريطة أن يعي الناظر ويميز بين جوهر النقد وما يحيط به من قشور وظلال، وأن يفرق بين مادته الأصلية وبين البهرجة الإعلامية التي يسوّق ضمنها، سواء كانت سلبية أم إيجابية.
فمثلما يتفوه بعض الخطباء مفتتحا ديباجة خطابه بمدح الفكرة التي توصل إليها، والطلب من الجمهور المستمع أن يتأمل فيها، وأن يلاحظ دقائقها الخفية، ثم يتحدث بحديث أكثر من عادي، لا يستحق كل هذه الحفاوة والتبجيل والتهيئة، كذلك هم بعض النقاد حين يبادرون لإثراء ساحتنا بأفكارهم ورؤاهم الجميلة.
عدد لا بأس به من المثقفين الواعين حينما يتحمسون ويقتربون من هموم المجتمع، ويتفاعلون مع قضاياه يحاولون أن يعطوا لنقدهم قيمة إضافية من خلال التهويل والمبالغة التي يوحون بها لقارئهم ومستمعهم.
من ذلك مثلا ما نراه من بعض المثقفين حين ينتقد بعض الظواهر والأمراض في المجتمع من الناحية الاجتماعية أو الدينية ، فإنه يحاول أن يبين أنه ينتقد في ساحة تسيطر عليها شريحة من رجال الدين - مثلا - وطلبة العلوم الشرعية، الذين لا يسمحون لأحد أن ينتقد أو يتنفس أو يبدي رأيا مقابل آرائهم وتصوراتهم وتصرفاتهم.
وكذلك بعض الكتاب حين يصرخون أن آراءهم لا تسمع لوجود حالة من الشللية في مراكز الثقافة والصحافة ومنتديات الفكر والحوار، وأنهم على رغم ذلك يمارسون نقدهم في ضيق وحرج بسبب الهيمنة التي يتحدثون عنها.
طبعا يتبعون ذلك بأنهم سيدفعون ثمنا كبيرا جراء ممارستهم للنقد، من سمعتهم ومكانتهم ومركزهم الاجتماعي، ومقاطعة الناس لهم، والتشهير بهم، إلى آخر المعزوفة.
وبعض هؤلاء تظهر أدبياته في شكل قاطع، فلابد من قول الحقيقة، ولابد من رفع الستار، ولابد من شفافية لا مجاملة فيها، ومكاشفة لا تراجع عنها، ولابد من وضع النقاط على الحروف، ولابد ولابد إلى ما لا نهاية.
في المقابل تقدم ردة الفعل المتشنجة في الطرف الآخر قيمة إضافية للنقد المعروض على الساحة، لأنها بتضخيمها لخطره وغاياته وأهدافه، والتشكيكات والاحتمالات التي تتخرصها فيه تبث فيه روحا إضافية.
صحيح أنها تقصد تنفير الناس وإفزاعهم منه، لكن الكثير من الناس إما بدافع المعرفة أو بدافع الفضول سيحاولون قراءة النقد وفهمه واستيعابه، وهذا ما حصل في العديد من الموارد التي جاءت ردة الفعل فيها متشنجة من الجهات الدينية على النقد الموجه للدين، أو لسلوك المتدينين، حيث لم تقدم بعض هذه الجهات الدينية إلا المزيد من التشنج الذي يفتقد أحيانا إلى الحلول والمعالجات، وفي بعض الموارد كان يفتقد إلى طرح البدائل.
ولو عدنا لبعض الأمثلة التي يمكن التمدد منها إلى عشرات بل مئات الأمثلة، لوجدنا كيف واجهت صحيفة «الشرق الأوسط» كل التشنج الذي ساد ضدها في الساحة لتبقى رقما في صحافة العالم العربي والإسلامي.
وهو الأمر ذاته الذي عكسه التشنج على العديد من القصص الأدبية التي نسبت لتوجهات ليبرالية وغيرها، فالسوق تمرر عشرات بل مئات الآلاف من نسخ هذه الكتب، وأرفف المكاتب تقول هل من مزيد، لتزايد الطلبات المسبقة.
لم يحدث التهويل سوى التنبه لهذه الكتب ولفت النظر تجاهها وإثارة فضول الإنسان ليعرف ويقرأ ويرى، ثم يقرر الرأي الذي يراه.
وقد لفت انتباهي العديد من معارض الكتاب، فقد كانت الكتب المحفوفة بالتهويل والتخويف هي محل الطلب، مع أنها لا ترى معروضة، لكنها سوق سوداء تمتاز بالربح الوفير لأن الكتاب فيها مطلوب، وصاحب الدار يتعامل مع هذا النوع من الكتب بطلب أضعاف سعره الحقيقي لأنه يخرجه من تحت الطاولة.
إن صراخ المنتقدين وتهويلهم وتشنج الرافضين لهم يتسببان إما في ضياع الفائدة الحقيقية من النقد، أو في إضافة قيمة للنقد ليست من رصيد الواقعي، وكلا الأمرين يتسببان في تعكير الصفاء وتلبد النظرة، وضياع الحقيقة، ناهيك عن تحول النقد من تصادم الأفكار إلى تصادمات غير محمودة
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 2236 - الأحد 19 أكتوبر 2008م الموافق 18 شوال 1429هـ