العدد 2236 - الأحد 19 أكتوبر 2008م الموافق 18 شوال 1429هـ

تحولات النخبة الغربية... فرانسيس فوكوياما نموذجا! (2)

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

إن كان المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما قد اعتبر في مقال له نشر بصحيفة الواشنطن بوست الأميركية أن الضربة الروسية ضد جورجيا شكلت مرحلة جوهرية جديدة في فلك السياسة الدولية وصعودا للروح الوطنية الروسية القيصرية والصينية وذلك كما تناولنا بالعرض في مقالنا السابق، فإنه وفي مقال له نشرته مجلة النيوزويك عن الأزمة المالية العالمية وقد عنونه بعبارة مرهبة ومهيبة في الوقت ذاته وهي «انهيار الاقتصاد الأميركي» وبدأه وكأنما يسلم بقدر إمبراطوري أميركي محتوم حينما كتب «في حين أن الأميركيين يتساءلون لماذا عليهم أن يدفعوا مبالغ ضخمة كهذه لمنع اقتصادهم من الانهيار، فإن قلة منهم تناقش كلفة أكبر غير ملموسة لكن ربما سيتعين على الولايات المتحدة أن تدفعها، وهو الضرر الذي يتسبب به الانهيار المالي «لسمعة» أميركا».

كما وتتمحور رؤية فوكوياما في مقاله عن أبعاد الأزمة العالمية في أنها زلزلت مصداقية «الأفكار» و»القيم» التي يعتبرها ضمن أهم الصادرات الأميركية على الدوام، وبالتحديد فكرتين: الأولى هي منهج «الرأسمالية الريغانية» والثانية هي الدعاوى الديمقراطية الأميركية، ففي حين تعني الأولى الاعتماد على فلسفة نوعية محتواها ومحكمها هو «الضرائب المنخفضة والقيود الخفيفة والحكومة الصغيرة ستحفز النمو الاقتصادي»، فإن الفكرة الثانية تجلي موقع ودور أميركا كـ «داعمة وناشرة للديموقراطية الليبرالية في العالم»، وبالنسبة للمنهاج الرأسمالي الريغاني الذي أثبت علائم فشله التاريخي أمام مشهد يصفه فوكوياما بأن «محرك الاقتصاد الأميركي قد خرج الآن عن سكته، ويهدد بجر بقية العالم إلى الهاوية معه. والأسوأ من ذلك أن الخطأ يقع على النموذج الأميركي نفسه: فواشنطن التي اتبعت شعار الحكومة الصغيرة، فشلت في تنظيم القطاع المالي بشكل مناسب وأتاحت له أن يلحق ضررا كبيرا ببقية المجتمع».

وهو يرى أن ما وضع ذالك المنهج وتلك المنظومة العصرية الرأسمالية في مقتل هو أن «ثورة ريغان ضلت طريقها لأنها أصبحت بالنسبة إلى الكثير من مؤيديها إيديولوجية لا يمكن التشكيك فيها. ولم تعد ردة فعل براغماتية على إفراطات دولة الخدمات الاجتماعية» وهو ما يعني أن كل فكرة وبديل له حقبته الزمنية المعينة وفرصته الزمكانية السانحة التي من دونها قد لا يجدي نفعا أو يزيد الأمور سوءا، لذا فهو يوجه أصابع الاتهام إلى العولمة لكونها «أخفت عيوب هذا التفكير طوال عقود. بيد أن الأجانب مستعدون لاقتناء الدولارات الأمريكية إلى ما لا نهاية، مما جعل الحكومة الأميركية تعاني عجزا ماليا وتستمر في التمتع بمعدل نمو عال، وهو أمر لا يمكن لأي بلد نامٍ مجاراته. لهذا السبب، يزعم أن نائب الرئيس ديك تشيني قال للرئيس بوش في مرحلة مبكرة إن الدرس المستقى من ثمانينيات القرن الماضي هو أن «العجز لا يهم»، فيستشهد بحقبة إخفاق الحكومات التي تقدم خدمات اجتماعية فائضة وكيف كان انبثاق «الرأسمالية الريغانية» ضروريا من خلالها فـ «الأفكار العظيمة وليدة إطار حقبة تاريخية معينة. وقلة من هذه الأفكار يمكنها الاستمرار عندما يتغير الإطار إلى حد كبير، وهذا هو سبب انتقال النزعات السياسية من اليسار إلى اليمين والعكس بالعكس في دورات تدوم جيلا فجيلا».

وفوكوياما يشير إلى أن خطوة إزالة القيود المالية إن كانت مجدية ونافعة في «وادي السليكون» حيث قلة القيود القانونية مفيدة، فهي قد لا تفلح في «وال ستريت» والمؤسسات المالية ليس إلا لكونها ترتكز على الثقة، التي لا يمكن أن تتنامى إلا إذا حرصت الحكومات على أن تكون شفافة، وعلى أن يكون اتخاذها للمخاطر محدودا لأنها تستعين بأموال الآخرين».

أما في ما يتعلق بأثر هذه الأزمة التاريخية على الانتخابات الأميركية فإن فوكوياما أبدى تصوره بأن الأميركيين عادة ما «يصوتون للحزب الجمهوري عندما تتغلب مسائل ثقافية مثل الدين والوطنية والقيم العائلية وحق اقتناء هذه الأسلحة على المخاوف الاقتصادية» لذا فهو يرى بأنه على الرغم من أن «الخيار الذي نواجهه الآن يتعدى خطة الإنقاذ الكبير، أو الحملة الانتخابية الرئاسية. فسمعة أميركا تحت المجهر في وقت تبدو نماذج أخرى – سواء كان النموذج الصيني أو الروسي – أكثر جاذبية. إن استعادة سمعتنا الطيبة وإعادة إحياء جاذبية نموذجنا تشكلان، لأسباب كثيرة، تحديا كبيرا يوازي تحدي إرساء الاستقرار في قطاعنا المالي» فإنه يشدد على حقائق تاريخية جذرية يحاول أن يربطها بسياقات زمنية مماثلة حيث «تطلب الأمر أزمة اقتصادية ضخمة من عام 1929 وحتى عام 1931 لإيصال إدارة ديمقراطية إلى الحكم. وتشير استطلاعات الرأي إلى أننا ربما وصلنا إلى نقطة مماثلة في أكتوبر2008».

وبالتالي فإن الحل بحسب فوكوياما الذي يراجع أطروحاته السابقة يكمن في التخلي عن «مبادئ عهد ريغان المتعلقة بالضرائب والقوانين التنظيمية. التخفيضات الضريبية تشعرنا بالسرور لكنها لا تحفز النمو بالضرورة أو تسدد كلفتها بنفسها نظرا إلى وضعنا المالي الطويل الأمد» والتي يجب أن تتعاضد مع خطوات مبادرة لــ» إعادة بناء القطاع العام وتعزيز كبريائه» وهو ينبه إلى أن «المؤسسات المالية بحاجة إلى رقابة صارمة» ويشدد من أهمية الاعتبار بأن «كلفة خطط الإنقاذ وضعف الدولار على المدى الطويل يعنيان أن التضخم سيشكل تهديدا كبيرا في المستقبل. كما أن اعتماد سياسة مالية قد يفاقم المشكلة بكل سهولة» وخلاصة فإن النموذج الأميركي بحاجة ماسة إلى أن يعيد صياغة نفسه بحيوية كما اعتاد سابقا على التأقلم والتكيف المرن مع مختلف المتغيرات والظروف الدولية.

وبشأن ما يتعلق بالفكرة الأخرى المهددة ممثلة في «الديمقراطية الأميركية» فيرى فوكوياما بأن صدقيتها قد تبددت من بعد حرب العراق التي استنتج من خلالها أنها أثبتت أنها أداة إستراتيجية لتغيير الأنظمة وبسط الهيمنة الأميركية إلى جانب مواصلة دعم أميركا لحلفائها الأوتوقراطيين.

وإن كان فوكوياما بانتظار أن يعيد النموذج الأميركي صياغة نفسه ويتكيف بمرونة مع هذه الأزمة والمتغيرات الجسيمة، فإننا بانتظار أن تبادر بعض النخب العربي وبالأخص مقاولات «الليبراليين العرب الجدد» بالتكيف مع الحقائق الواقعية، وأن يقتدوا بسادتهم في الغرب ويعيدوا صياغة أنفسهم من جديد على صورة قوامها المراجعة النقدية ومصارحة الشعب والصرامة الواقعية والسعي المتحفز لإيجاد البدائل الأصيلة لا المزيفة بعيدا عن أي تشنج أيديولوجي متلبرل، وأن ينتصروا لرسالتهم الإنسانية لا لصكوك بيعهم وتسويقهم السلعية، فعليهم في النهاية تجشم شجاعة الاعتذار لقرائهم الذين ضللوهم كثيرا بـ»سدحهم» الفكري وردحهم «الطبيولوجي» ذاك

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2236 - الأحد 19 أكتوبر 2008م الموافق 18 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً