العدد 179 - الإثنين 03 مارس 2003م الموافق 29 ذي الحجة 1423هـ

الحرب المجنونة الثالثة

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

يُنقل عن أحد كبار الحكماء قوله إن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الانسان خيَّره بين ثلاث أن تكون هي الأولى له: الدين أو العقل أو الحياء، فاختار العقل، ولما سئل لماذا؟ قال: باختياري العقل أكون قد كسبت الدين والحياء أيضا، لأن العاقل لا يمكن له أن يكون إلا متدينا وإلا أن يفقه ويدرك بعقله معنى الحياء وأهميته.

الآن ونحن نقارب الساعات الأخيرة من احتمال اندلاع الحرب على العراق، يبدو أن العالم دخل مرحلة الجنون التي لا رجعة عنها. واذا ما صدقت تحليلات غالبية السياسيين الذين ظلوا يقولون بحتمية اندلاع الحرب وكذبت رؤيا المنجمين مهما حاولوا اقناع العالم بعدم اندلاعها، فإن العالم يكون قد دخل مرحلة الجنون الفعلي لا محالة.

من حق الرئيس الأميركي جورج بوش الابن أن يضع في أعلى سلم أولوياته الدفاع عن أمن بلاده القومي ومن حقه أيضا أن يتخوف ويظل قلقا ومستنفرا من احتمال تعرض بلاده مجددا لما تعرضت له من ضربة موجعة في 11 سبتمبر /أيلول 2001. ومن حقه كذلك أن يحشد كل طاقات بلاده وطاقات حلفائها لمنع تكرار وقوع الكارثة. نقول هذا باعتباره من منطق الأشياء بعيدا عن عواطفنا الذاتية أو مواقفنا الخاصة.

لكن على رئيس الولايات المتحدة الأميركية أن يعرف جيدا كذلك بأن ما حصل لبلاده ولشعبه - أيا كان تقييم العالم لتلك الواقعة الشهيرة سلبا أو ايجابا - لم يكن مطلقا بفعل قرار اتخذته أية دولة ولا أية قومية ولا أية قوة سياسية أو دينية معلنة ومعروفة للملأ مثلث أو تمثل يوما طرفا دوليا معترفا به بل ان ما حصل لم يكن في الواقع سوى رد فعل على مجموعة من الممارسات والتراكمات السياسية المتوالية مسئولة عنها في الدرجة الأولى الولايات المتحدة وقامت بتنفيذها جهة تربت وتدربت وترعرعت بين يدي تلك الجهات أو ولدت وكبرت في رحمها أو انبعثت من جرائها سواء رضيت بذلك الولايات المتحدة أم لم ترض، هذا اذا ما قبلنا بالرواية الأميركية المعلنة بخصوص المتهم الأول والمخطط الأول لعملية سبتمبر، وأما اذا اتضح غير ذلك فالمصيبة أعظم.

أيا تكن الحال فإن واقعة سبتمبر لم تكن اعلان حرب من جهة مسئولة ومعترف بها على أي مستوى من مستويات المسئولية.

انها عملية «ارهابية» لم نسمع أية جهة مسئولة في الدنيا ايدتها أو اقرتها حتى اسوأ الجهات دكتاتورية وظلما واستبدادا ودموية بما فيها نظام بغداد.

في المقابل فإنه لا أحد في الدنيا اليوم حتى أقرب المقربين من الادارة الاميركية من سياسيين وعسكريين أميركيين ناهيك عن الحلفاء الدوليين والاقليميين، فضلا عن عشرات الملايين من جمهور الرأي العام العالمي - طبعا عدا المجموعة الصغيرة من العسكريتاريا المحيطة مباشرة بالرئيس - يتجرأ أن يعلن موقفا مؤيدا ومساندا لقرار الحرب على العراق في الوقت الذي لا تمر فيه فرصة سانحة أمام الرئيس بوش إلا ويستغلها لإعلان نيته الصريحة غزو العراق واستخدام القوة العسكرية ضده!

وكلما تعالت الأصوات المناهضة للحرب والغزو وازدادت واتسعت دوائرها تراه هو ومعه من بات يطلق عليهم «فصائل مؤتمر لندن للمعارضة العراقية» أو من اصطلح على تسميتهم لدى البعض بـ «فصائل الاستدعاء»، أي الذين استدعتهم واشنطن على عجل في لحظة انتهازية نادرة، يتهمون كل من يقف ضد الغزو والحرب ويدعو إلى الطرق السلمية وآليات الاستئصال السياسي لأسلحة الدمار الشامل والاستبداد والدكتاتورية بأنه انما يمد في عمر نظام صدام حسين أو انه عميل له!

لا أحد يستطيع أن يفهم كيف تبرر الادارة الأميركية لنفسها أن تعلن وعلى رؤوس الاشهاد وفي اطار قعقعة مدوية للأسلحة بأنها ذاهبة إلى غزو بلد بكامله بقرار منها أو منتزع من الامم المتحدة - بالمناسبة لا فرق في ذلك في الجوهر الأخلاقي - في حين تدعو العالم وتحشد منذ واقعة سبتمبر الشهيرة ضد العنف واخطار استخدامه من قبل جماعات أو أفراد لا يملكون واحدا في المليون مما تملكه أميركا.

فب العام 1956 هاجمت كل من فرنسا وبريطانيا و«اسرائيل» مصر، فيما عرف بالعدوان الثلاثي، وكانت أميركا في طور صعودها على المسرح الدولي باعتبارها قوة لم توصم بعد بالامبريالية، فكان أن وقفت غير مؤيدة للثلاثي المعتدي وبعد ذلك تطور الموقف الى حد انذار الدول بالانسحاب فانسحبت فعلا وسقط المعتدون في وحل الجريمة ومستنقع العدوان.

اليوم وبعد مرور نحو خمسين عاما على تلك الواقعة نرى التاريخ يكاد يكرر نفسه ولكن هذه المرة بالعكس، فالمهاجم هو الولايات المتحدة ومعها بريطانيا التابعة، كما كانت في العام 1956، في حين أن أوروبا القديمة أي فرنسا ومعها ألمانيا وآخرون يحذرون واشنطن من كارثة بشرية يمكن أن تسببها الحرب غير المبررة.

وحده الجنون التاريخي! كما عبر عنه أكثر من صانع قرار أوروبي وأميركي بين سياسي ورمز من رموز النخب الغربية، هو الذي يمكن أن يبرر لمثل هذه الحرب. أما الأخلاق والحياء والكرامة وكل الصفات الانسانية فإنها ساقطة لا محالة عند كل من يمكن أن تسوّل له نفسه أن يقف إلى جانب هذه الحرب.

وكما تقول الحكمة البابلية الشهيرة: اذا استعملنا العدالة فلا حاجة لنا إلى الشجاعة!

ولتعلم الولايات المتحدة الأميركية وغيرها ممن يقفون اليوم في صدد المروجين لحرب محتملة على العراق انهم انما يطلقون النار في حربهم الخليجية الثالثة هذه في الواقع ضد صوت الاعتدال والوسطية والصوت والصورة المتوازنة ويغذون في المقابل جهة المتطرفين والراديكاليين الذين لا يقبلون بأقل من التهديد بـ «سبتمبر» ثانية وثالثة ورابعة لا يعلم إلا الله متى وكيف تندلع؟ وبالتالي فإن المروجين للحرب على العراق هم المسئولون عن أعمال الارهاب المستقبلية. فهل تعرف ادارة بوش ذلك جيدا؟ أم انها لا تدري إلى أين تقود العالم بسياستها الحربية خلافا للأكثرية الساحقة من قوى العالم؟

إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 179 - الإثنين 03 مارس 2003م الموافق 29 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً