العدد 179 - الإثنين 03 مارس 2003م الموافق 29 ذي الحجة 1423هـ

رائحة السمك

يبحث عميقا في تلك الزاوية المظلمة، خيوط العنكبوت تزداد تشابكا في زاوية، وفي أخرى تبدو هالكة إلى درجة تطمس معها هويتها، إضاءة خافتة في ناحية، وفي جهات أخرى يكاد النور يعمي الأبصار، والظلمة أكثر حنانا عندما تشرق من ذلك الاتجاه. لا شيء يبدو حميما كما هو المكان اليوم...

يدفع يده بكل عنف ليقتلع تلك الذكريات من أرضها الخصبة ويطلقها في الهواء. تعلق تلك القصص برائحة السمك، أو ربما كانت تلك الرائحة من حرك المكان أكثر من أي شيء آخر.

إنه المكان، جو الشتاء الرطب شديد الرطوبة هو الوحيد القادر على أن يكسر الحاجز ويعبر البوابات التي لا حصر لها ويندفع بجسده، جسد الغول، إلى الذاكرة، إلى حيث كانت حبيبة ترقص على أطراف أصابعها مدغدغة لحظات العمر، محركة الفرح، السعادة، النشوة، الرغبة في الحياة، في الشعور بأن العمر باق لا يزول، أن العالم ملك هذه اليد، ملك هذه اليد...

ما الذي كان سيفعله لو لم يكن يملك الذكرى، لو لم يكن يجلس في تلك الزاوية... ينزل من سيارته الفارهة، حمراء داكنة، يجلس بالقرب من ذلك المحل، روائح السمك، يا للذاكرة التي تتحرك بفعل رائحة السمك...

ويتكرر السؤال: ما الذي كان سيفعله لو لم تكن له ذكريات؟... رحلت... أحبَّت آخر، ومضت بعيدا حيث تصنع ذكريات جديدة... أجمل في نظرها... لا تريد العودة... بكت كثيرا قبل الرحيل... كانت تبكي ذكرياتها... تدفنها هنا... تمضي ولا تعود... رحلت ولن تعود...

ابتسم... أضحكته نفسه الغريبة... لِمَ يتمسك بهذا المكان الغريب؟

أكثر ساعات الألم هي ما يحملها الشتاء... لا تحمل ريح الشتاء المريض غير الحزن، المزيد من الحزن... كم كان يشعر بالدفء عندما كانت عيناه تلامس جسدها وحتى طيفها من بعيد... لم تعد هنا مجددا... هذا مؤلم.. ما يزيد ذكرياته حركة يائسة...

كل تلك الحركة والهيجان في الذاكرة لا يولد إلا الحزن، منهوك، هو لا يقوى على الحركة، فكل الضجيج الذي يسري فيه لا يجعله يقوى على القيام من مكانه فيظل جالسا ضاحكا بائسا دون جدوى من الخلاص... لكني لا أريد التخلص من ذكرياتي هي الأجمل ... الأكثر ألما...

ربما كانت حلما

ربما استيقظ بعد حين...

كانت ولم يكن سواها، كانت ولن يكون هناك سواها... تحمل رطوبة الشتاء أطياف ذلك الزمن... مضى من دون استئذان يأتي من دون رغبة مني، ويمضي رغما عني، يقحم نفسه في الواقع ويتحول إلى ذكرى تسجن في ذلك المكان الذي يعج بالزوايا، زوايا لا حصر لها، كل زاوية وطن، وما أكثر أوطاني وأزماني، أيام وأيام... الذكرى وطيفها، حبيبة كانت أكثر الأشياء إسعادا لي، وها ذكراها اليوم تقذفني في حضن النشوة والفرح وتعود فتدفعني في حضن اليأس والألم... مؤلم مؤلم حتى آآآآآآآآه لا تريحني، حتى التنهيدة لا تعيدك... من يستطيع أن يخلقك مجددا إنسانة لا ذكرى، لم أكن يوما أرغب في أن تكوني ذكرى...

يا... قلما أذكر أسمك لكني منهار منهار، برد الشتاء يقتلني على رغم أنه دافئ في وطني، فإن الوحدة تشعلني بردا، تحرقني مطرا على أرض العجز... لا أصدق أنك مؤلمة لهكذا درجة، لم يكن بوسع عراف مهما كان، في أي زمن كان، أن يتنبأ بهذه النبوءة، بهذا الفقد والوصل، أنت داخلي وأنا عاجز عن التقاطك...

أنا وأنا وأنا...

أعلم أنه المكان هو من يهب الروح لمخلوقات الذاكرة...

من يهبني قدرة النسيان... انفصال الجسد عن المكان كالموت... لا لن تموت الذاكرة إلا عندما أحرمها صلواتها في معبدها المكاني هذا... لن تموت الذاكرة إلا عندما أحرمها وضوءها برائحة السمك... أحرمها السجود على الهواء الرطب... ستموت كما ماتت أرواح الكثيرين ممن حرموا معرفة الله، حين حرموا الصلاة...

لن أعود مجددا... لن أجلس في هذا المكان مجددا...

انتهى...

قام بكل صلابة، شد قامته الطويلة أكثر من أي وقت مضى، دخل سيارته الفارهة ومضى...

الغد

رائحة السمك، الرطوبة، جو الشتاء، الساعة الثانية عشرة... إنه منتصف الليل... لا أحد يعبر هذا الشارع في هذا الوقت غير بعض العمال من أصل هندي أتعبهم نهارهم الذي لا ينتهي... إنه الجالس هناك، غارقا في صلاته مجددا، يشرع في وضوئه برائحة السمك النتنة المنبعثة من محل بيع المخلوقات البحرية البشعة، يقوم يسجد على ريح الشتاء الرطبة، يغرق في صلواته ومناجاته، حبيبة التي رحلت ولن تعود، ينتظر معجزة تصوغها الريح ربما تخلق من تراب الذاكرة حبيبة من جديد جسدا وابتسامة وتنفخ فيها روحا من عوالم الذكرى.

كاتبة بحرينية





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً