العدد 179 - الإثنين 03 مارس 2003م الموافق 29 ذي الحجة 1423هـ

بيار بورديو... نظرة جديدة على العالم الاجتماعي

باريس - ايمانويل تيفنون 

تحديث: 12 مايو 2017

قبل ايام مرت الذكرى السنوية الأولى لرحيل عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو الذي توفي في 23 يناير/كانون الثاني 2002، وهو اشهر اختصاصي في علم الاجتماع في العالم. وقد ترك لنا اعمالا مثيرة للإعجاب وبعيدة كل البعد عن التبسيط ولكنها وراء نظرة جديدة على العالم الاجتماعي.

كان بياربورديو شخصا مولعا بالمعرفة فلم يبق مجال الا وأثار اهتمامه من عادات القبائل في الجزائر إلى المنظومة التربوية ومن مؤسسات البحوث إلى الزواج ومن معايير التذوق إلى سيطرة الذكور، ومن كبار الموظفين في الدولة إلى اللغة ومن باسكال إلى التلفزيون... وفي الحقيقة ووفقا للفيلسوف روجيه - بول دروا لم يكن هذا التنوع الشديد في الموضوعات التي تطرق إليها بورديو إلا محاولة للإجابة على الأسئلة الانسانية الأزلية، من انا ومن نحن وماذا اعرف؟

ومع ذلك وعلى عكس الفلاسفة، لم يكن بورديو يغوص في خفايا عالمه النفسي لتناول هذه الموضوعات الاساسية عن الهوية بل كان على العكس يتفحص كل ماهو خارجي ومتعلق بالأداء الاجتماعي في ادق تفاصيله المرئية منها او الخفية مع اعطاء دور مهم للبنى الرمزية (التعليم والثقافة والادب والفن ووسائل الاعلام والسياسة)

يعطي روجيه - بول دروا مستطردا المثل الآتي: تشعر يوما بأن لك موهبة فنية، ايتملكك افتتان بهذه الموهبة؟ عليك بالاحرى ذكر تاريخ ومكان ميلادك والمهن التي اشتغل بها والداك وكذلك المسار الدراسي الذي اتبعته، فكل هذه التفاصيل البسيطة ستسمح لك بلا شك في معرفة المزيد عن مواهبك المفترضة اكثر مما يسمح لك به مجرد احساسك الشخصي بها.

وباتضاح هذه الآلية الخفية، كان بورديو يصر على القول ان علم الاجتماع يسمح لكل امرئ بأن بفهم من هو وبشكل افضل إذ يعطيه تفسيرا لظروفه الاجتماعية الخاصة المؤثرة في انتاجه وللمكانة التي يحتلها في العالم الاجتماعي فهل يعد علم الاجتماع ركيزة للانطلاق في العمل؟

ولد بيار بورديو العام 1930 في اسرة متواضعة في مدينة بيارن بجنوب غرب فرنسا درس الفلسفة ثم ما لبث ان انكب على ممارسة علم اصول السلالات البشرية عن الجزائر قبل أن يتخصص في علم الاجتماع وهي المهنة التي حقق بفضلها نجاحات كبيرة وحاز التكريم (جائزة الكوليج دو فرانس، والميدالية الذهبية من المركز الوطني للابحاث العلمية...) وقد ترك لنا اعمالا فريدة من نوعها، صعبة الفهم، مزجت بين الفكر النظري المتعمق وبين مجموعة متنوعة ومذهلة من ادوات البحث والتحقيق الميداني (كالإحصاءات، والحوارات، والملاحظات العرقية والمواد التاريخية الخ).

وبمزجه بين نظريات كارل ماركس واميل دوركهايم وماكس فيبر إضافة إلى مارسل موس وارنست كسيري ولودفيج ويتجنشتاين وادموند هوسرل وكلود - ليفي ستراوس صاغ بورديو مفاهيه الخاصة بهدف تخطي الافكار التقليدية المتضادة في علم الاجتماع، بين البنيان والتاريخ، بين الحرية والحتمية، بين الفرد والمجتمع، بين الذاتية والموضوعية... ومن الصعب حتى لا نقول من المستحيل ان نعرض في بضعة كلمات الاسهامات النظرية لبيار بورديو، ولنكتف بعرض فكرة عامة للغاية عنها من خلال ثلاثة مفاهيم رئيسية كانت محور اعماله: التصرفات المكتسبة والمحيط ورأس المال الثقافي.

بالنسبة إلى جان - فرانسوا دورتييه الذي كتب في العدد الخاص من المجلة الفرنسية «علوم إنسانية» المخصص لبورديو بعد وفاته، إن التصرفات المكتسبة هي أولا نتاج تمرس يكتسب بصورة لاشعورية، ويكون من شأنه لاحقا ان يظهر على صورة قُدرة تبدو طبيعية في التطور بحرية في محيط ما. فالموسيقي لا يستطيع الارتجال في العزف من دون عوائق إلا بعد أن يكون قد تدرب كثيرا واكتسب قواعد التأليف والانسجام الموسيقي.

ويعي المرء وجود هذه التصرفات المكتسبة عندما ينغمس في محيط مختلف عن محيطه الأصلي لا يعرف شيئا عن قواعد اللعبة فيه. ويفسر هذا التفاوت على سبيل المثال كون الزواج. وإن لم يعد مدبرا كما كان الحال في القرن الماضي، ليس ثمرة اختيار حر بصورة مطلقة: فالتشتت الاجتماعي للأذواق المنبثقة عن تلك التصرفات المكتسبة يدفعنا إلى التعاطي مع اشخاص لهم نفس اختياراتنا الجمالية والرياضية والغذائية.

ولكن على العكس مما قد نعتقد، فالأذواق والالوان يمكن لها ان تكون موضع جدل. في كتابه «التميز عن الآخرين هو نقد اجتماعي للادانة» برهن بورديو على ان الاختيارات الجمالية مرهونة خصوصا بمنشئنا الاجتماعي، الذي تبقى معاييره متعمقة فينا، وبالمكانة التي نحتلها في السلم الاجتماعي، وقد جسد فيلم «ذوق الآخرين للمخرجة انياس جاوي هذه النظرية بصورة جلية، إذ يتناول الفيلم المشكلات التي يواجهها رئيس احدى الشركات الصغيرة القادم من الريف للدخول في العالم الفني المحلي البعيد تماما عن عالمه الاصلي.

يترعرع كل فرد منا، وهو مقيد بتلك التصرفات المكتسبة. في «محيط» واحد أو اكثر، قد يبدأ في فن الأزياء الفاخرة أو بيع البيوت الخاصة ليصل إلى مجالات اخرى اكثر اتساعا مثل الاقتصاد والسياسة والادب، الخ. وكل محيط في هذه الميادين يمثل جزءا صغيرا من العالم الاجتماعي، يسود فيه التواطؤ، وتسير فيه الامور وفق نوع من الاستقلالية وله قواعده الخاصة. ولعل هذا ما يفسر وجوب تمعن كل من يريد الدخول في محيط ما (كالسياسة، أو الفن، أو الفكر...» في إدراك القوانين الخاصة والقواعد الداخلية لذاك المحيط.

كما انه ساحة تتصارع فيها القوى، مجال فسيح للسيطرة والنزاعات بين الافراد وبين مجموعات متكتلة، إذ يحاول كل فرد ان يكسب فيه مواقع. وكما هو الحال في لعبة الشطرنج. فإن مواقع وقيم كل فرد لا قيمة لها بحد ذاتها، ولا تكتسب قيمتها إلا انطلاقا من مقارنتها مع مواقع الآخرين. ويمكن مقارنة المحيط بلعبة قواعد ليست معلنة ويتقاسم فيها «اللاعبون» بشكل غير متساو أعداد طائلة من «ادوات النجاح»: ألا وهي رؤوس الاموال.

أيا كان المحيط، فإن «رأس المال الثقافي» (كالشهادات العليا، والمعرفة المكتسبة، والقواعد الثقافية، واساليب التخاطب، و«آداب التعامل») إضافة إلى رأس المال الاجتماعي (كالعلاقات، وشبكات العلاقات) ورأس المال الرمزي (كالشرف) تشكل جميعها مصادر نافعة في درجة المنفعة نفسها التي هي فيها رأس المال الاقتصادي (كالاموال والاملاك) لتحديد وإظهار المكانات الاجتماعية. ويفسر التوزيع غير العادل للثروات «الاستراتيجيات» المختلفة التي يعتمدها الافراد عند مواجهتهم لوضع ما، والاساليب التي يتبعونها في الانزواء أم في تسليح انفسهم.

ادت ابحاث بيار بورديو عن الوقائع الاجتماعية إلى تغيير عميق في نظرتنا الخاصة لبعض المؤسسات مثل المتاحف والتلفزيون والعلوم وخصوصا التعليم. في كتابيه «الورثة» وإعادة التكوين» اللذين الفهما بالتعاون مع جان - كلود باسورون.

يكشف بيار بورديو كيف ان عملية الانتقاء المدرسي تستبعد الاطفال المنتمين إلى الأوساط الفقيرة. ضاربة بعرض الحائط بالمعتقد السائد عن مبدأ تكافؤ الفرص في المدرسة الجمهورية، كما انه كشف كيف ساهم تجانس التصرفات المكتسبة السائد بين معلمي المدارس الرفيعة المستوى واطفال كبار الموظفين والتجمعات المهنية الكبرى التي تتشكل منها الدولة. هؤلاء الذين يتمتعون بنصيب وافر من رأس المال الثقافي والاجتماعي، ساهم في إعادة تكوين طبقة جديدة من نبلاء الدولة، جيلا بعد جيل (1989).

وهذا الكشف عن آليات السيطرة ليس بغريب على التزام بورديو السياسي في الحركة المعادية للعولمة، الذي اصبح أحد مراجعها ولا سيما بعد مساندته للمظاهرات الكبيرة التي حدثت في ديسمبر/ كانون الاول 1995.

لابل فرانس - بالاتفاق مع السفارة الفرنسية





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً