هل يبقى لبنان في منأى عن مؤامرات الحوادث التي يمكن ان تشهدها منطقة «الشرق الأوسط» خلال العام الجاري؟ كل التقديرات تشير إلى خطورة ما سيحدث من الحرب على العراق إلى ما يسمونه في الغرب، وخصوصا الغرب الاميركي، بالحرب على الارهاب. ولا تجعل تقديرات المراقبين، زاوية في المنطقة، نائية عن مؤثرات الحرب، حتى تجعل من هذه الحرب حربا، ذات مواصفات كونية بما تحشده من اسلحة وأهداف. وما تقرر في خرائطها الجيوسياسية والاستراتيجية، قد تقرر، أنه قدر مكتوب، لا يبقى للمعنيين به سوى ترسم الادوار، والاقدار، ترسما يرتبط بتفحص موقعه، بين مواقع ثلاثة:
1- ان يكون ساحة مباشرة للحوادث، يواجهها بما توافر من امكانات المواجهة ويتلقى نتائجها ومتغيراتها التي ستكون عميقة الاثر وبعيدة التأثير.
2- ان يكون مسرحا غير مباشر، لتلقي الحوادث ونتائجها من دون ان يدخل في مواجهتها إلا من حيث ترتيب الاحوال الداخلية على ما تقتضيه ابعاد هذه الحوادث الجارية في مكان آخر.
3- أن يبقى بعيدا عن الاثر المباشر وغير المباشر، لكنه ينجو بنفسه بعد أن يكون رتب لها ملاذا آمنا.
وإذا كان الخيار، بالنسبة إلى لبنان، كما غالبية الدول العربية، بعيد المنال، فإن خصوصية الوضع اللبناني تسمح بهامش مناورة، لا يترك احتمال الخيار الثاني معدوما، أي أن لبنان في أحسن الاحوال، يستطيع إذا أحسن التصرف، ألا يكون محلا للمواجهة المباشرة وأن يرتب شئونه على هذا الاساس.
هل هذا الاحتمال واقعي وممكن؟ وهل تسعى القوى السياسية اللبنانية الفاعلة، إلى تحقيقه في ظل الظروف التي يمكن ان تنشأ عن الحرب، ذات الصفات الكونية في الاسلحة والاهداف، وكيف لطرف إقليمي، مثل لبنان، أن يتصرف، في مثل هذا الوضع، وما الفائدة المرتقبة، بهذا التصرف، وما امكانات تحقيقه، من الناحية النظرية والعملية، وهل ثمة من يسعى إليه بصرف النظر، عن الكلام السياسي والإعلامي الظاهر، وهل يوجد سر باطن في مثل هذه الاحوال، وما امكانات حفظ هذا السر وصيانته إلى ساعة تكشف فيها الأسرار والادوار؟
في التصفيات الاميركية لأحوال الدول الاقليمية في الحرب ومن خلال نتائجها، يبدو لبنان في منزلة بين منزلتين، فلا هو في خانة الدول المصنفة رسميا محلا لحرب مقبلة، ولا هو في خانة الدول البعيدة عنها هذا على الاقل في اللائحة الاميركية المعدة لساحة الحرب المحتملة التي تحصر جبهة المواجهة العسكرية في ساحة العراق ونظامه السياسي. ولذلك عمدت الحكومة اللبنانية، وكذلك القوى السياسية الفاعلة والمعنية فيه، إلى توجيه رسائل صريحة وضمنية بأن ما يحدث بشأن العراق، لا علاقة للبنان فيه إلا في اعتباره دولة عربية، كانت ترأس الدورة السابقة للقمة العربية، وما يترتب على ذلك من مسئوليات، شكلية في غالبية الظن، فيما يتعلق بالحرب على العراق. وعليه كان لبنان مشغولا بشئونه الداخلية من السياسة إلى الاقتصاد، إلى تحرير ارضه من الاحتلال الصهيوني، ولم يكن العراق نقطة ساخنة على جدول اعمال المعنيين فيه. ويعني ذلك من الناحية العملية احتمال بقاء الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة على ما هي عليه هذه الايام، في حال نشوب الحرب على العراق، وهذا الامر، لبنانيا، اضحى صريحا وفي معلوم الدول الاوروبية وكذلك الولايات المتحدة وإلا كيف نفسر، الحركة الدبلوماسية النشطة على الارض اللبنانية، من القمة العربية إلى قمة الفرانكوفونية، إلى مؤتمر (باريس 2) إلى تواضع المشاركة اللبنانية في علاقات بعض القوى المحلية، بقوى المعارضة العراقية التي لم تتجاوز تبادل النصائح أو تبادل العتاب، أو الدور الاعلامي المعهود، إلى جانب التنسيق التام مع الموقف السوري من خلال مواقفه في مجلس الامن الدولي، والاكتفاء بالدور الشكلاني لرئاسة القمة العربية وجعل موقف لبنان، في عهدة مواقف الدول العربية الفاعلة بالنسبة إلى الموقف في العراق وحياله. ولم تبادر اية قوة لبنانية داخلية، إلى اعلان موقف صريح، وذي معنى بالنسبة إلى العراق، بل هل ما تفعله هذه هو ترقب موقف «اسرائيل» من خطورة استغلال الحرب على العراق بشنّ حرب على لبنان، كانت قد وضعت اوزارها لعامين ماضيين وأبقت على جبهتها مفتوحة، للدفاع عن حقوق وطنية من الارض إلى المياه، إلى دعم الانتفاضة الفلسطينية، كبقية الدول العربية ذات الحدود المشتركة مع فلسطين، مع خصوصية الجبهة اللبنانية الحذرة، لكنها الهادئة نسبيا، كما هي الحال في هدنة غير محفوظة تحترم ما يسمى بالخط الازرق الذي رسمته الامم المتحدة، المحتفظة بقوة سلام على الحدود، والمعنية بمراقبة الخروقات النادرة والمنظمة لهذا الخط الدولي.
هكذا ينفصل الوضع اللبناني عن مجريات الحرب المحتملة على العراق، وتلك هي المنزلة الاولى، التي تجعله في منأى عن اعتباره ساحة مباشرة للحوادث المرتقبة لكنّ هذا الوضع مناط بالموقف الذي يمكن ان ينشأ عن الدور المرسوم للعدو الصهيوني في ناحيتين:
- ناحية الحرب على العراق.
- ناحية الحرب على فلسطين وسورية ولبنان.
لا يبدو ان الولايات المتحدة، وحتى إشعار آخر، تشجع دورا إسرائيليا مباشرا في الحرب على العراق لكن هل تسمح باستغلال ظروف هذه الحرب لتشن حربها الخاصة، وتحت شعار مواجهة الارهاب، أو الهروب إلى الامام من مجريات حرب لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، مع الوضع في العراق وفي حقبة واحدة، وتحت لواء قيادة واحدة؟ إن من يتفحص أهداف الحرب الاميركية على العراق، يجد انها تجمع في جعبتها، ما يفيد احتمال الأمر ونفيه في آن. فإذا كانت سمة هذه الحرب ذات صفات عالمية، ومدرجة تحت شعار محاربة الارهاب واحتلال الدول بذريعة البحث عن «أسلحة دمار شامل» فإن وضع لبنان في منزلة بين منزلتين بالنسبة إلى موضوع حرب الارهاب، وخارج مقولة احتلال «اسلحة دمار شامل» متحققة عند «إسرائيل» من دون سواها من الدول الاقليمية المحيطة بالكيان الصهيوني، يجعل من احتمال السماح بشن حرب مرافقة لحرب العراق صعب التحقق. بل تضعه في خانة الاوضاع اللاحقة، لنتائج الحرب على العراق، وما يمكن ان تجره من متغيرات، تطول في الدرجة الاولى الوضع الفلسطيني، وتأخذ معها الوضع في لبنان. وهذا أمر ممكن التحقق. لكن ما السبيل الذي ستسلكه الدولة الكبرى، لمجريات حربها المعلنة على العراق بالنسبة إلى الصراع العربي - الصهيوني؟ إن مصير الوضع على الحدود اللبنانية، مرتبط اشد الارتباط بهذا الامر. من الناحية النظرية، يبدو ان لبنان ربح معركة تصنيفه والقوى السياسية الفاعلة فيه في خانة الارهاب بل لعل نصاعة مواقف المقاومة اللبنانية، باعتبارها مقاومة وطنية مشروعة، اضحت خارج دائرة الخطر، وإن ظلت معرضة لموجات من التهم الباطلة، تطل من هنا وهناك بفعل الحملة الاسرائيلية وفعاليتها في الاوساط الغربية. ويبدو ان قوة هذه الحملة، لم تتجاوز السباق النظري، ولم تصل بعد، إلى إدراج لبنان في لائحة الدولة المرشحة لاحتمالات الحرب المباشرة، وإذا ما اندلعت حرب جديدة على الجبهة اللبنانية، فإن تطور هذه الحرب إلى حرب اقليمية عربية اسرائيلية ممكن الحصول. وعالم الامكان من السعة، بدرجة تجعل من حدوثه اقرب من السواد إلى البياض، وذلك يعني أن قيادة الحرب الاميركية، أصيبت بنوع من عمى الالوان الغريب. فهل تنزلق الولايات المتحدة إلى هذه الحال، وكيف يمكن توقع امر من هذا النوع من دون مبررات سياسية كافية؟ يرجح ان تكون الساحة اللبنانية، وكذلك الساحة الفلسطينية، متروكة، لتداعيات الحرب على العراق ونتائجها، لا أن تكون فصلا من عمليات الحرب ذاتها، وهذا يعني ان تترك الامور إلى اوقاتها، لأن كرة الحرب مثل كرة الثلج، تكبر إذا تدحرجت، وتنطفئ إذا واجهتها حرارة نار لاهبة، وخصوصية الوضع اللبناني، التي تجعله في منزلة بين منزلتين، هي قوة النار التي تذيب كرة الثلج هذه، التي إذا تدحرجت كبرت مثل كتلة النار، وحرقت معها اصابع صانعيها قبل ان يحترق بلهيبها الآخرون
العدد 178 - الأحد 02 مارس 2003م الموافق 28 ذي الحجة 1423هـ